د. حسن عبد الله : في الذكرى الـ35 لرحيله.. معين بسيسو له "خلودان"

د. حسن عبد الله
حجم الخط

في الذكرى الخامسة والثلاثين لرحيله معين بسيسو له "خلودان".. خلود في القصيدة وخلود في الموقف

 

هناك شعراء في تجربتنا الفلسطينية رفعتهم القصيدة إلى أعلى مستوى، فيما لم يرفعهم الموقف سوى إلى مستوى محدود ومتواضع مقارنة مع علو القصيدة، بيد أن معين بسيسو من القلائل الذين توازوا ارتفاعا وسموا على مستويي القصيدة والموقف.

 

وقد قدم سيسو للشعر جديداً من حيث الشكل والمضمون، فلغته واضحة ممشوقة كالرمح، ومضمونه تموج فيه وطنية شابة لا تعترف بالعمر ولا علاقة لها بالشيخوخة والموت. وطنية طازجة على مدار الفصول والسنوات، فهو مبدع متعدد المواهب والأبعاد والألوان، فالقصيدة مفتاح شخصيته الثقافية والوجدانية، والمسرح ميدان لحمحمة وصهيل خيولة، وصحافته تكثيف لقلم متمكن لكنه صعب وعصي إذا تعلق الأمر بالموقف والقضية، أما أعماله الدرامية في التلفزيون فقد كسرت الإطار النمطي للدراما العربية لغة ومعالجة. كان بسيسو عندما يكتب نثراً لا يتخلى عن الشاعر في أعماقه، بل يطلقه لكي يتبارى مع الناثر ودائما يحصد الشاعر ميدالية السباق على الورق، مستثمراً مخملية الكلمة وشفافية الصورة والتدفق الرقراق للمعنى، فهذا المثقف المسوعي بمخزونه المعرفي واللغوي ورهافة حسه ظل قادرا حتى اللحظة الأخيرة على أن يصول ويجول شعراً في ميدان النثر، وكان قادراً أيضا على جعل لغة النثر مموسقة، تنساب بشكل تلقائي، فلا يجهد نفسه وهو يشيّد مداميك مشروعه ،لأن الأفكار حاضرة وعميقة واللغة جاهزة في عقله وخياله، بكل زخمها وتنوعها وهدوئها واندفاعها وانضباطها وتمردها.

 

لم تبرح القصيدة تجربة معين بسيسو في مراحل حياته كافة، وكأنها قدر لا انفكاك منه، حيث كانت كظله في غزة ومصر، وفي الاعتقال، وزمجرت في داخله وخرجت غاضبة في بيروت خلال الحصار والاجتياح. وبالرغم من أنه عبّر عن مواقفه الوطنية والعقائدية في أشكال شتى من النثر، إلا أن القصيدة كانت أكثر تأثيراً واستيعابا، وفي قصيدته نجح في تحقيق هدفين لدى فئتين مختلفتين أولا على مستوى المثقفين الذين فهموا قصائده وتفاعلوا معها ووقفوا على عمقها ودلالاتها، وثانيا المواطن البسيط العادي الذي غناها ورددها في المظاهرات والمهرجانات.

 

وأعتقد أنه لا أحد من الشعراء الذين جاؤوا بعده لم يتأثر بجرأة وجسارة قصيدة بسيسو أو بعناده وصموده أمام معاناة مريرة، حولت حياته في مرحلة ما إلى جحيم بسبب الملاحقة والاعتقال. والمفارقة هنا وكما أحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي، فقد اعتقل في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لكنه لم يتنكر لمرحلة المد الوطني والقومي، واعتبر أن عبد الناصر هو صاحب مشروع تحرري وتنموي، وأن الخلاف معه في الأسلوب والأداة لا يعني التناقض مع هذا المشروع، فأحمد فؤاد نجم بكى حين توفى عبد الناصر، مع أنه كان يقبع في السجن بأمر منه، والأبنودي كتب متذكراً عبد الناصر شعراً بعد أربعين عاما من رحيله، مشيداً بدوره ورؤيته ورمزيته. كان هؤلاء العظام قادرين على تجاوز الشخصي من خلال الانحياز للمشروع الوطني القومي التقدمي.

 

أعلم أن معين بسيسو بسيرته الذاتية ومشروعه الإبداعي معروف في أوساط المثقفين والأكاديميين، وهو بالنسبة إلى معظمهم يشكل رمزاً نضالياً وثقافياً ومثالاً للمثقف العضوي على رأي "غرامشي"، حيث انصهرت ذاته انصهارا كليا في بحر المجموع، أي أنه وهب عمره للقضية الوطنية، وفي الدفاع عن أفكاره ومعتقداته، إلا أنه وبالرغم من ذلك لم ينصف كما ينبغي، ولم يقدم بشكل متكامل إلى الجيل الشاب، ولا أقصد مجرد الاستشهاد بقصيدة أو قصيدتين له في منهاج أو مناسبة معينة وينتهي الأمر، وإنما تعميم مشروعه عن طريق النشر والرسائل الأكاديمية، وادراجه في المناهج بالحجم الذي يستحق، وتخصيص مساحة واسعة لإبداعاته في المجال الأكاديمي خاصة في دوائر وتخصصات اللغة العربية والدراسات الثقافية في جامعاتنا الفلسطينية، إضافة إلى تخصيص حلقات إذاعية وتلفزية للإضاءة على جوانب من تجربة عظيمة وفريدة، أكد شاعر كبير شاعريته فيها، ليس في صالونات التنظير بل في الشارع وساحة الفعل الانتفاضي، وفي الزنزانة، وخلال حصار بيروت، وفي كل محطات العمل الوطني الفلسطيني. وكانت النتيجة أنه عاش حياة شخصية صعبة ودفع وعائلته الصغيرة ثمنا باهظا، ومنعوا من ممارسة حقوقهم العادية الطبيعية في العيش والاستقرار.

 

كان بسيسو سباقاً في مواضيعه التي طرقها شعراً ونثراً، وريادياً في مسرحه الشعري، وفي معالجته الأدبية والصحفية، وتكفي الإشارة عندما نتحدث عن الصحافة إلى ان رسالته التي قدمها إلى قسم الصحافة في الجامعة الأمريكية في القاهرة في العام 1952، واستحق عليها تقديرا عالياً، قد حملت عنوان "الكلمة المنطوقة والمسموعة في برامج إذاعة الشرق الأدنى". لذلك فمن البدهي أن يختار عناوين لكتبه تعكس الأبعاد العميقة لتجربة في منتهى الغنى، فكما عنوان ديوانه "الأشجار تموت واقفة"، مات بسيسو واقفاً وما زال منتصب القامة بما أنتج وأبدع، وظلت عصافيره "تبني أعشاشها بين الأصابع"، وقصائده تبسط بهاءها وألقها على البساتين والحقول والجبال والساحات والمدارس والجامعات، لتخلد في ضمائر محبيه، بعد أن تحولت نصوصه إلى "مارد في السنابل". ليرحل مطمئنا تماما بان حبيبته أخذت جسده "كيسا من رمل"، ومتاكداً من أن "الأحجار تمطر".