في الأزمة الصهيونية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

مع ظهور الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر، انقسمت الجماعات اليهودية بين مؤيد للحركة ومعارض لها (التيار الصهيوني، والتيار اللاصهيوني). وهذا الانقسام ظهر داخل الجماعات المتدينة والعلمانية على حد سواء؛ داخل التيار العلماني برزت جماعات غير صهيونية، كانت تدعو لاندماج اليهود في المجتمعات التي يقيمون فيها. كما برز تيار صهيوني علماني يدعو للهجرة إلى إسرائيل.
وأيضا ظهر الانقسام داخل الجماعات الدينية نفسها، وكانت مسألة الخلاص (المسيا) حجر الزاوية، ونقطة الخلاف المركزية بين التيارين الدينيين (الصهيوني وغير الصهيوني).
المسيانية، تعني الفكر الخلاصي، الذي يؤمن بأن خلاص اليهود يتمثل بعودة المسيا (المسيح). 
مع البدايات الأولى للحركة الصهيونية، وقف التيار الديني المحافظ (الأرثوذكسية اليهودية) في مواجهة الحركة الصهيونية، واتهمتها بالكفر والإلحاد وبتدمير اليهودية كدين. لأن الصهيونية من وجهة نظرهم ستكون إحلالا للفكرة القومية بدلا من التدين، فالصهيونية هنا ستشجع اليهود على التخلي عن واجباتهم الدينية. ولن تعود التوراة عامل توحيد الشعب اليهودي. 
السبب الثاني لرفضها الحركة الصهيونية، اعتبارها "مسيانية كاذبة"، تحاول تعجيل الخلاص اليهودي بوسائل دنيوية، فالخلاص من وجهة نظر أرثوذكسية لا يتم إلا بقدوم المسيا، وجمع الشتات، وهي عملية ربانية، وليست بشرية، والصهيونية هنا ستكون تدخلا في شؤون الرب. وقد ظل هذا موقف التيارات اليهودية اللاصهيونية، إلى أن بدأت تتخلى عنه تدريجيا، أو تفهمه بطرق براغماتية مختلفة، وبقيت "ناطوري كارتا" وحدها متمسكة بهذا المبدأ. (عزمي بشارة).
خلافا للأرثوذكسية، أرادت الصهيونية الدينية أن تصدّر مشروعها الديني إلى‏ عالم السياسة من خلال تفسير التاريخ والأحداث السياسية من منظور ديني. بفهم الحركة الصهيونية وإنجازاتها ليس باعتبارها عملاً إلحادياً وتدخلاً في الشؤون الإلهية، إنما باعتبارها فصلاً من فصول الخلاص الديني. 
من هذا المنظور، فإن القادة الصهاينة على الرغم من نواياهم الإلحادية، إلا أنهم بنشاطهم إنما ينفذون مهمة إلهية دون أن يدروا. وبالتالي فهم ليسوا بالأشرار وليس بالضرورة مقاطعتهم، والإرادة الإلهية تستعملهم كي تحقق مشروعها المقدس. 
ضمن هذه الرؤية تصبح الصهيونية نفسها حلقة مهمة في الرواية الدينية وفصلاً ضرورياً من فصولها، وستكون المحطة النهائية للمشروع محطة دينية حتماً. وبالتالي فإن كل المشروع الصهيوني هو مشروع خلاصي ديني، أو هكذا يجب فهمه. (رائف زريق).
أما العلمانيون، ممن يعرّفون أنفسهم كعلمانيين وصهيونيين في آن واحد، فيشددون على الطبيعة الثورية للحركة الصهيونية، وعلى كونها انقلابا على اليهودية والدين. وفي هذا السياق، كتب رائف زريق في بحث لم ينشر بعد: "الصهيونية من هذا المنظور هي مشروع لإعادة اليهود إلى‏‏ مسرح التاريخ. وبما أن اللاعبين على مسرح التاريخ كما تم فهمه في القرن التاسع عشر هم الذوات القومية، فهذا يتطلب صياغة مشروع يهودي قومي جغرافي يعيد لليهود دورهم كلاعب وكذات تاريخية فاعلة، تأخذ مصيرها بيديها، وتُخرج اليهود من الحالة السلبية التي عاشوها في أوروبا‏ إلى‏ حالة عمل سياسي وفعلي. الخلاص لا يأتي من الابتهال لله، إنما من العمل السياسي الجماعي القومي. وفكرة «خلاص الأرض» و«جمع الشتات» لا تتم عبر الصلوات إنما عبر المبادرة والعمل. و"العودة إلى‏ صهيون" لن تنتظر المسيح المنتظر؛ إنما يجب القيام بها هنا والآن وبجهد جماعي وبمساعدة القوى العظمى. وبالتالي ليس من المفاجئ أن ترى إصرار الكثير من العلمانيين الصهاينة على أن الصهيونية ليست استمرارا للرغبة الدينية اليهودية الخلاصية، إنما هي أيديولوجيا حداثية وثورية ترمز إلى‏ إحداث قطع واضح عن الإيمان الديني الخلاصي السلبي".
وتستمد هذه الرؤية العلمانية للصهيونية قوتها من حقيقة أن الكثيرين من المنظرين الأساسيين في الصهيونية أمثال هرتزل لم يصروا على أن يقوم الوطن اليهودي في فلسطين بالذات، باعتبار أن المشروع لا يمت للدين بصلة. وعندما سئل هرتزل حول عودة (المسيح)، قال، إن هذه الفكرة سائدة ضمن الأوساط الدينية، أما في «دوائرنا الأكاديمية المستنيرة فليس لمثل هذه الفكرة من وجود». وقد حذر هرتزل في كتابه «دولة اليهود» من «تحكم الثيوقراطية» ومؤكداً حرصه على «إبقائهم ضمن حدود معابدهم». وأكد أن اليهودي يمكن أن يكون ملحداً، وأن يبقَى في الوقت نفسه يهودياً من الناحية القومية.
وبالتالي، يمكن القول إنّ الصهيونية ليست حركة علمانية تماماً، وليست حركة دينية تماما، والصهيونية ليست مجرد ذيل للاستعمار، لكنها ليست حركة تحرر قومي بالمعنى المتعارف عليه. فهي تصطدم في لحظة مع الغرب لكنها سرعان ما تتواطأ معه. وهي تتصارع مع الدين لكن سرعان ما توظفه وتتعاون معه. وإذا كانت الصهيونية حركة قومية، ‏فهي الحركة القومية الوحيدة التي قامت بمساعدة الدول الاستعمارية، والحركة القومية الوحيدة أيضاً ‏التي استعدت وتستعدي باقي الحركات الثورية في العالم الثالث، وتتآمر عليها بالتعاون مع الدول الاستعمارية. (رائف زريق).
كما أن الصهيونية لم تستطع في جوانب عديدة أن تعرّف نفسها وأن تبني مشروعها خارج المنظومة اللغوية الرمزية الدينية، وبالتالي لم تستطع قطع العلاقة بينها كحركة علمانية قومية وبين التراث الديني اليهودي. ولم يتخلف "بن غوريون" نفسه عن توظيف الدين اليهودي وأساطيره كأداة في خدمة المشروع الصهيوني، وكمبرر أيديولوجي وأخلاقي لمشروع الدولة الصهيوني. 
فالصهيونية ما هي بالأساس إلا محاولة جديدة لتفسير الأسطورة الدينية اليهودية، وهي ليست عملية استبدال جذرية للأسطورة، بل إن ما فعلته الصهيونية أنها أسبغت على الأسطورة الدينية مفاهيم قومية أوروبية.  
وإذا زعمت الصهيونية أنها حركة تحرر، فإن حركات التحرر يجب بالضرورة أن تحمل رسالة ثورية ذات مضامين إنسانية وأخلاقية، تنادي بالحرية والعدالة، ومحاربة الظلم والعنصرية والاحتلال.. وهذه على العكس تماما من الممارسات الصهيونية، بل وحتى على عكس الفكر الصهيوني القائم على التوسع والاحتلال، وعلى عكس الأيديولوجيا الدينية التي تقوم عليها الصهيوني.
في واقع الأمر، بالرغم من سلبيات قانون القومية للشعب اليهودي، الذي أقره الكنيست مؤخرا، إلا أنه كشف هذا الوجه البشع للصهيونية. وكشف حقيقة دولة إسرائيل.

جزء من دراستي: "إسرائيل والصراع على هوية الدولة والمجتمع"، مجلة قضايا إسرائيلية العدد 72.