من المفترض أن نستهل الحديث عن مؤتمر وارسو الذي دعت اليه إدارة ترامب، بتفنيد مواقف أصحاب الدعوة والتركيز على معارضتنا الجذرية لمقاصدهم، حتى في منحاها المتعلق بإيران، فضلاً عن معارضتنا ــ بالطبع ــ لمؤتمرهم جملة واختصاراً وحضوراً وتفصيلاً!
ويصح أيضاً أن نستهل حديثنا عن مؤتمر وارسو الفاشل قبل أن يبدأ؛ بالقول إن من يليق بهم حضور هكذا مؤتمر، هم الثابون على الفكرة الشائنة، التي ترى بعد كل الخيبات وانتهاكات الإحتلال، أن التعاون الأمني مع إسرائيل هو أول السياسة وشرطها وآخرها. بالمقابل، هو مؤتمر رلا يليق ولا تتقبله ذائقة الثابتين على فكرة الإصلاح وإعادة بناء الحركة الوطنية وإنهاضها لكي تستأنف مسيرة التحرر وحمل أعباء مشروع الإستقلال والحرية. فمثل هذه المؤتمرات المُلهيات، تركز على الأمن وعلى أمن إسرائيل تحديداُ، في الوقت الذي بدأت فيه إسرائيل نفسها تهدد أمن الآخرين بعد أن ضمنت هذه الدولة المارقة أمنها، وتوافقت الدول الكبرى على صونه وعلى ديمومته.
مؤتمر وارسو لا يعنينا، ولن تخدعنا قشرة العناوين التي تنوّه رياءً الى التسوية في الشرق الأوسط. ثم إن إدارة ترامب معلومة ليس بتوجهاتها المجافية للحد الأدني من الحقوق الفلسطينية وحسب، وإنما معلومة بعدم أهليتها للقيام بخطوة قصيرة محلية، فما بالنا بخطوات طويلة تاريخية ودولية، لحل صراع معقد. فهي إدارة بلا ثقافة سياسية وبسب إفلاسها فإنها تميل الى الإستعراضات، وبات موضوعها المفضل هو مقارعة الإيرانيين بأسلوب يعزز مكانتهم بدل أن يفعل العكس. لقد بات حتى رهان حلفاء واشنطن على إدارة ترامب خاسراً ولا يُرجى منه شيء!
في موضوع القضية الفلسطينية، قال ناطق باسم جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره، إن المذكور وجه الدعوة الى الى مسؤولين فلسطينيين، وهو "سيرحب بشدة بآراء السلطة الفلسطينية خلال النقاش، لكنه يود أن يؤكد بأن المؤتمر ليس للمفاوضات ولكنه للنقاش. فكوشنر يتطلع لرعاية حوار بناء في وارسو"!
منطق عجيب تتبدى فيه محاولة ساذجة للضحك على الذقون. فالمبتديء في السياسة زوج ابنة ترامب، وبعد أكثر من سنة من الجولات العقيمة والمقاربات الفارغة والتلعثم ولعبة الإستغماية، أصبح هو الذي سيرعى حواراً بنّاءً عجز عنه الرؤساء الأمريكيون السابقون ووزراء خارجيتهم الكبار، والراسخون الأمريكيون في العسس وفي السياسة والجنرالات الذين امتهنوا السياسة، وحلّوا على رأس الديبلوماسية الأمريكية، بخبراهم الإستراتيجية!
كلام فارغ. ولا جديد لا في وارسو ولا في واشنطن، ولا حتى في الحديث عن لجان، لأن عناوين اللجان المقترحة في مؤتمر وارسو، ليست إلا عناوين السياسات الأمنية التي اعتمدتها واشنطن في منتطقتنا منذ عشرات السنين: محاربة تهديد الأمن السيبراني، أي إحباط محاولات ضرب نظام السيطرة والتحكم على امتداد خارطة التوتر في غربي آسيا وعلى خطوط إمدادات الطاقة، وكذلك متابعة مسائل الصواريخ الباليستية، ومحاربة الإرهاب، وأمان الطرق البحرية، وما يزعمونه من حرص على حقوق الإنسان.
مؤتمر الإستعراض الأمريكي في وارسو، يسعى الى تأجيج النزاعات الإقليمية، وصرف الأنظار عن عدوانية إسرائيل وعن أصوليتها الظلامية الإرهابية وممارساتها اليومية، وجعل التركيز على إيران، موضوعاً رئيساً ومديداً يستنزف القدرات ويفتح خطوطاً للتوتر ويطيل أمد الفتن في الإقليم ويؤسس لحروب بين مكونات الشعوب.
إن كل هذه المقاصد باتت معلومة، ولن تجد من يتماشى معها حتى من بين حلفاء أمريكا أو تابعيها. فضلاً عن ذلك فإن هكذا مؤتمرات تبدأ وتنتهي بلا خطط وبلا أهداف محددة، وهذه حقيقة لا ينكرها الداعون اليها. فكوشنر نفسه يقول إن المفاوضات ممنوعة والإدلاء بالآراء متاح، وإن كان لا بأس من التذكير باللجان القديمة والتلميح الى أنها جديدة..
أخيراً يجدر التنويه الى إن استمرار الإدارة الأمريكية في مثل هذه الألاعيب، من شأنه أن يعزز موقف إيران الأدبي، ويحرج أصدقاء أمريكا ويفاقم الأوضاع الداخلية في الإقليم ويشجع إسرائيل على المزيد من العدوان!
