بغض النظر عما يعتقده غالبية الناس، من فهم خاطئ لمفهوم الحرية، وما يجره هذا الفهم من تشويه لا محدود، وشكلي لهذا المفهوم، إلا أن الحقيقة الدامغة لمفهوم الحرية وعلاقتها بالأولويات والاحتياجات الضرورية للإنسان والمجتمع بالمفهوم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تبقى المصدر الرئيس والموضوعي لفلسفة الحرية ومعناها ومغزاها. وهو ما يتناقض إلى حد ما مع الاعتقاد الشائع، بان الحرية مفهوم فردي وشخصي فقط، وبغيره لا تستقيم الأمور.
إن مفهوم الحرية الفردية والشخصية للإنسان رغم أهميته، إلا انه لا يرتقي إلى مستوى الحرية الجماعية للجماعات والشعوب، فالحرية مفهوم مرتبط بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات البشرية عبر التاريخ، وبقدر ما تحصل الشعوب على حريتها في هذه المجالات، بقدر ما يحصل الأفراد على حريتهم الشخصية والضرورية إلى حد كبير.
في الحياة اليومية، يبرز التعبير عن الحريات الفردية المرتبطة بالاحتياجات والرغبات والنزعات الشخصية، على حساب الحاجات والضرورات العامة للمجتمعات كتوفير" حرية العمل والتنقل والسكن والبنية التحتية والصحة والتعليم وحرية الرأي والتعبير وتوظيف التكنولوجيا مجتمعيا والالتزام بحقوق الإنسان إلى أخره من الحريات".
إن النزعة الاستهلاكية للفرد والمرتبطة بنزعة التملك في إطار حراك اقتصاد السوق، تشكل الدافع الرئيس لمفهوم الحريات الفردية، وهو ما يبدو واضحا في اقتصاديات الدول الفقيرة والنامية التي تلعب مراكز القوى السياسية والاقتصادية وفوضى السوق الدور الرئيس، في تحديدها للقوانين والأنظمة الراعية والناظمة لمصالح هذه القوى "الأقلية" على حساب الغالبية العظمى من هذه المجتمعات.
وهنا يبرز دور وأهمية الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في التطوير النسبي لمفهوم الحريات العامة والفردية، وهو ما يتطلب النهوض والتطوير لبنية الاقتصاد الوطني كقاعدة بناء إنتاجية قادرة على خلق فرص العمل المتنوعة، انطلاقا من كون حرية العمل والإنتاج المحرك الرئيس لبناء المجتمعات وتقرير مصيرها واستقلاليتها، وإقامة العلاقات الاقتصادية مع الدول المجاورة والعالم.
وليس بعيدا عن ذلك، فقد لعبت مؤخرا، وسائل التواصل الاجتماعي في مجتمعاتنا كأداة اتصال وتواصل فعالة، دورا كبيرا في إنعاش وتضخيم ثقافة ومساحات الحريات الفردية، على حساب ثقافة الحريات العامة، بشكل لم يسبق له مثيل، وشكلت ملاذا للتعبير عن المشاعر والهموم والمصالح والحياة الخاصة للأفراد، وهو أمر يقترب إلى حد كبير من استخدام هذا المفهوم للتعبير عن النزعات الذاتية والملكية الخاصة.
وفي هذا السياق، يغرق المجتمع الفلسطيني، في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح شخصي للهجوم والدفاع عن المصالح الفردية والضيقة، وفي أحيان كثيرة عن الأجندات الفئوية والعشائرية ومظاهر الفوضى والفلتان، وخصخصة القطاع الخاص، فيما يبدو استخدامها ضعيفا من منطلقات فلسفية وثقافية تربوية، في ترسيخ القيم الوطنية والقومية والأخلاقية، والتضامن والتكافل وصيانة الوحدة الداخلية للمجتمع.
وما يبدو أكثر صعوبة، إمكانية صياغة مشروع رؤية فلسفية مجتمعية وسياسية شاملة، تأخذ بعين الاعتبار المصالح الكلية والتاريخية للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات "السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية" تعتمد في تحقيقها وترجمتها إلى واقع جديد بأدوات وروافع قادرة على إحلال هذا الواقع، كبديل عن الحالة التي فرضها مشروع وثقافة اتفاقيات أوسلو، التي شكل إسقاطها من فوق على الشعب الفلسطيني حربا على انجازاته ومصالحه الوطنية والقومية.
إن خيار النضال الاممي القائم على حق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادتها، وحقوق الإنسان، والنضال العربي الذي يستند إلى رؤية وفلسفة المصالح القومية والديمقراطية والعدالة والتنمية الاجتماعية والوحدة، والمناهض للتطبيع الرسمي وغير الرسمي، إلى جانب كفاح الشعب الفلسطيني، يشكل منهجا وطريقا وحيدا للتحرر الوطني والاجتماعي من كل ما زرعه الاستعمار بأشكاله المختلفة.
وبمعنى أخر، فان الحريات العامة المرتبطة بأولويات الشعوب واحتياجاتها الأساسية، هي الطريق الموضوعي والاشمل للحريات الفردية التي لا تتناقض مع مفهوم الحرية والضرورة، وليس العكس. وهو ما يتطلب بناء منظومة للمفاهيم وللقيم المجتمعية بالجملة، ومن أسفل إلى أعلى "قاعديا"، والتوقف عن إسقاطها من أعلى "فوق".