تنافس على الفشل بين واشنطن وموسكو

11.PNG
حجم الخط

بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس

 

بقدر ما كانت قمة «سوتشي» الثلاثية التي جمعت بين رؤساء روسيا وإيران وتركيا يوم الخميس «14/2/2019» الماضي اختباراً لمدى قدرة روسيا على وضع «قواعد لعبة» جديدة يجري احترامها من الشريكين الإيراني والتركي وتضع في اعتبارها العقبة الإسرائيلية التي تحول دون وصول موسكو إلى غايتها في التوفيق بين الشركاء، بقدر ما كان مؤتمر وارسو الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية بالتنسيق مع بولندا يومي الأربعاء والخميس «13و14/ 2 / 2019» تحت اسم «السلام والأمن في الشرق الأوسط» اختباراً هو الآخر لمدى قدرة الولايات المتحدة على التأسيس لفرض «قواعد لعبة» جديدة ضد إيران، يكون في مقدورها احتواء ما تشكله من مصادر للتهديد وتطويعها ضمن متطلبات الأمن الإسرائيلية.

كان المؤتمران: سوتشي ووارسو مباراة بين موسكو وواشنطن على من سيتفوق منهما على الآخر في الإمساك بالأوراق القوية في الشرق الأوسط، ومن سيقدر منهما على أن يتفوق في فرض نفوذه. ما يعني أن الشرق الأوسط عاد مجدداً ساحة صراع نفوذ أمريكي روسي. اللافت في هذا كله، أن إسرائيل هي الطرف الوحيد الذي يحرص على أن يقف بقدميه ثابتتين وممتدتين واحدة على أرضية التحالف الذي تقوده روسيا والأخرى على أرضية التحالف الذي تقوده واشنطن، ما يعني أنها تريد أن تجعل من نفسها طرفاً في جني الثمار، أما باقي الأطراف فهي المعنية بدفع الأثمان: العرب وإيران وتركيا.

وإذا كانت نتائج «مؤتمر وارسو» و«قمة سوتشي» لم يعلن عنها كلية، وأن كل ما نشر هو مجرد مؤشرات وبيانات ومداخلات للمتحدثين في المؤتمرين، فإن من الممكن رصد بعض المعالم الكاشفة لحدود النجاح والفشل الذي تحقق.

أول هذه المعالم هو أن «النجاح المؤزر» قد خاصم المؤتمرين. فإذا كانت قمة سوتشي قد تفوقت فى إنجاز الأهداف، فهذا مرجعه إلى أن قمة سوتشي ركزت فقط على ثلاثة ملفات تخص الأزمة السورية دون التطرق إلى ملفات أخرى من شأنها أن تنحرف بهدف القمة. الملف الأول هو ملف ملء الفراغ بعد الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا، و الثاني هو مصير «مثلث الشمال السوري» وبالتحديد مصير «مشكلة إدلب» بين الحسم العسكري الذي تريده كل من روسيا وإيران وسوريا لتصفية آخر البؤر الإرهابية، وبين الحرص التركي على منع هذا الحسم العسكري، والمحافظة على الوضع القائم. أما الملف الثالث فيتعلق باللجنة الدستورية التي ستتولى صياغة الدستور السوري الجديد، والتوافق على القائمة الثالثة مثار الخلاف منذ عهد المبعوث الدولي السابق ستيفان دي ميستورا، وهي القائمة التي تخص المشاركين في اللجنة الدستورية من ممثلي منظمات المجتمع المدني السورية.

«قمة سوتشي» التي خططت روسيا لانعقادها في موعد يتزامن، بشكل متعمد، مع موعد انعقاد «مؤتمر وارسو» الذي رفضت حضوره في إعلان سافر للتحدي مع واشنطن، لم تستطع حسم الخلاف الإيراني الروسي حول موقف موسكو من الاعتداءات الإسرائيلية على إيران في سوريا، ووضع حدود للتفاهمات الروسية- الإسرائيلية بهذا الخصوص. كانت هناك رغبات إيرانية وتركية لتمارس روسيا ضغوطاً على إسرائيل لمنعها من اعتداءاتها على قوات إيرانية في سوريا، خصوصاً أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو سيزور موسكو يوم 21 شباط الحالي، لكن لم تظهر مؤشرات مؤكدة على وعود روسية بهذا الخصوص ما يعني الإبقاء على وجود عقبة مهمة في جبهة التحالف الروسي إضافة إلى عقبة أخرى هي فشل التوفيق بين تركيا وسوريا بخصوص من سيسيطر على الشمال السوري بعد الانسحاب الأمريكي؛ سوريا أم تركيا.

ثاني هذه المعالم أن «مؤتمر وارسو» تحول مبكراً من قمة عالمية هدفها احتواء ما سمته واشنطن «الخطر الإيراني» إلى مجرد مؤتمر أو اجتماع لوزراء خارجية وممثلي الدول التي قبلت أن تلتقي على حوار موسع لا يركز على إيران ولكن يتحدث عن قضايا ذات «صيغة عمومية» مثل السلام والأمن في الشرق الأوسط. كما أن هذا المؤتمر تعرض لانقسام حاد ومبكر في الموقف بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي حرصت على أن يكون تمثيلها في المؤتمر شكلياً أو بروتوكولياً من خلال دبلوماسيين من الدرجة الثانية.

الانقسام بين المشاركين في «مؤتمر وارسو» حول «الخطر الإيراني» وإن كان قد حال دون نجاح المؤتمر في التوصل إلى قرارات ذات معنى لاحتواء إيران فإنه أعطى فرصة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو ليصول ويجول في المؤتمر بالتنسيق مع جاريد كوشنير مستشار البيت الأبيض والمكلف بمبادرة «صفقة القرن الأمريكية» وليفرض كل الأولوية لمصلحة ملف التطبيع العربي مع إسرائيل، بعد أن شارك في حفل العشاء الافتتاحي للمؤتمر مع عدد من وزراء الخارجية العرب الذي اعتبره «منعطفاً تاريخياً».

محصلة مؤتمر وارسو ربما تكون الفشل في التأسيس لتحالف دولي ضد إيران، فالمؤتمر لم يتضمن بياناً ختامياً باسم المشاركين فيه، لكنه تضمن بياناً صدر باسم الولايات المتحدة وبولندا فقط، لكنه فضلاً عن ذلك لم يرتق إلى المستوى الذي أرادته واشنطن التي أعلنت على لسان مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي أن إيران هي «الخطر الأكبر على المنطقة» لكن النجاح الوحيد الذي تحقق هو إرساء قواعد لتحالف عربي مع إسرائيل، وهو الوجه الآخر لمعادلة الصراع مع إيران بعد أن أضحى الصراع مع إيران هو البديل للصراع مع إسرائيل.

وإذا كان «مؤتمر وارسو» قد فشل في التأسيس لتحالف دولي ضد إيران، فإن «قمة سوتشي» بفشلها في حل معضلة الصراع الإسرائيلي- الإيراني في سوريا يمكن أن تسهم في تهيئة الظروف لنشوب حرب إسرائيلية - إيرانية في سوريا، وهي الحرب التي باتت محتملة إن لم تكن مؤكدة على النحو الذي حذر منه محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني في كلمته أمام مؤتمر ميونيخ للأمن «17/2/2019» عندما اتهم إسرائيل بالسعي إلى الحرب وقال إن «الطريقة التي تتصرف بها الولايات المتحدة تجعل فرصة نشوب حرب هائلة»، عندها ستكون موسكو أمام أصعب تحدياتها بين الانتصار لحليفها الإيراني وبين الصمت على تجاوزات من تراه شريكاً إسرائيلياً في ملفات روسية شرق أوسطية كثيرة، أبرزها الملفان الفلسطيني والسوري. تحديات تضع روسيا على قدم المساواة مع واشنطن في التنافس على الفشل في إدارة ملفات الشرق الأوسط.

...عن «الأهرام» المصرية