في كتابات اليسار الفلسطيني هناك بشكل عام ظلم واجحاف بحق الإسلاميين، وعادة ما يغيب الانصاف والعلمية فيما يوجهونه من نقد واتهامات، حيث يبدو الكثير منها مغرضاً، ولا يعكس التوازن المطلوب في العلاقات الوطنية والإنسانية، من حيث جدلية العدل والشنآن.
الصديق العزيز الأستاذ حسن عصفور؛ الوزير السابق، وأحد مهندسي اتفاق أوسلو، وواحدٌ من هؤلاء اليساريين الفلسطينيين الذي أكن له شخصياً احتراماً وتقديراً خاصاً في سياق مواقفه وخطابه الوطني، ولكن متابعتي لما يكتب، تدفعني للقول بأنه عقل يساري متحامل أيديولوجياً على حركة حماس بالدرجة الأولى، برغم ما يجمعه من صداقة مع الكثير من قياداتها، وعلى الإسلاميين بوجه خاص.
إن تقييمي للصديق حسن عصفور (أبو على)؛ باعتباره شخصية سياسية مخضرمة، أن لديه وعياً متقدماً وعقلية منفتحة في تفكيرها، وتلتقي بالآخر في دائرة الاختلاف، ولكنَّ خطابه تجاه الاسلاميين ومواقفهم وحراكهم السياسي فيه الكثير من التجني، ويأخذ دائماً منحىً إقصائياً!!
نعم؛ الرجل بدوره تعرض لانتقادات كثيرة من أطراف إسلامية، وحتى من داخل حركة فتح، التي تمثل جناح الرئيس أبو مازن في السلطة، ولكن هذا لا يبرر ملاحقته الدائمة لتبخيس كل تحرك أو موقف لحركة حماس أو ما يوجهه من سهام جارحة تجاه الإخوان المسلمين وحركات الاسلام السياسي.
لا شك أن بعض ما يكتبه يمكن تفهمه، فالإسلاميون وحركة حماس غير مبرأة من كل خطأ أو عيب، وليست منزهة عن السقطات والزلات، فهي ككل تيار فكري يمارس السياسة يصبح له وعليه، ولكنَّ وجه الانصاف والأمانة العلمية تتطلب ألا يكون من يقدم التقييم والتحليل السياسي مسكوناً بأحكامٍ مسبقة، وليس مدفوعاً بغرائز الأيديولوجيا، التي لا ترى في الآخر غير هامش على متن صفحاتها!!
من الجدير ذكره أن الصديق العزيز حسن عصفور يدير موقع (أمد للإعلام)، وهو موقع متميز من حيث حجم الرصد والتغطيات التي تنشر على مساحات الموقع ونوافذه المتعددة، والتي نجد كإسلاميين أن لنا فسحةً وترحيباً لمقالاتنا عليه، كما أنه ومن خلال مراسليه يحرص على إجراء ونشر مقابلات مع العديد من القيادات الإسلامية؛ وخاصة من حركتي حماس والجهاد الاسلامي، ويتيح للكل الفلسطيني فضاءً إعلامياً مشكوراً عليه في سياق "الرأي والرأي الآخر".
وفي الواقع، أنا لا أنكر عليه أنه يمتلك الكثير من حيث المعلومة والتحليل عند تناوله للشأن الوطني، كما أن قلمه السيَّال لا يوفر أحداً لا يساير بوصلته في اتجاهاتها اليسارية، وهذا ما نجدنا نتحفظ عليه؛ لأن فيه شططاً مبالغاً فيه، وتحاملاً يجافي الحقيقة، ويخرج – أحياناً - عن السياق الذي نتطلع إليه داخل الدائرة الوطنية والعلاقات الاجتماعية، التي تتداخل فيها انتماءات أبناء البيت الواحد وتتوزع على كل الفصائل، وهذا ما يجعل بين الجميع "عيش وملح"، وصداقة في الإطارات التنظيمية والعائلية والنضالية.
وأنا كغيري من الاسلاميين الذين تجمعهم صداقات متقدمة به وبغيره من قيادات اليسار الفلسطيني، نحرص أن تُبنى تلك العلاقات مع الآخر المختلف أيديولوجياً على قاعدة "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، وهذا يتطلب أن تكون لغة النقد والتحليل متوازنة في سياقاتها، والاجتهاد في الحفاظ على "شعرة معاوية"، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها بمزاجية تنطع الأقلام والكلمات.
وحتى لا أدان بما أطالب به من الإنصاف للإسلاميين، فإن الأمانة تقتضي عدم التعميم في اتهام اليسار؛ لأن داخل هذا التيار الواسع تنوعات ومدارس مختلفة، وليس كله بالتالي صديقنا حسن عصفور، فهناك من اليساريين من تعاطى شريكاً وطنياً معهم، وكان منصفاً لهم في القول والعمل.
للأسف؛ لقد تعودنا في سياق المواقف الحزبية ومفردات لغة الفصائل، أن يفلت البعض من عقاله ويخرج بمناكفات جارحة تستدعي من الآخر الرد، ولكن هذه ليست ثقافة أهل الرأي والحكمة، وأن كل ما نتمناه ونرجوه من صديق عزيز كالأخ حسن عصفور هو توخي الانصاف والعدل، بعيداً عن حالة الشنآن التي يغرق فيها بعض خصوم السياسة من نخب اليسار الفلسطيني تجاه تيارات أو واجهات إسلامية تشاركهم قيادة المشروع الوطني، ولها حضور فاعل في الساحة النضالية والعمل المقاوم، وبامتياز وطني ربما لم يحظ به حالياً أيُّ تيار فلسطيني آخر.
من هنا؛ أخلص إلى ما أراه "بيت القصيد"، حيث إننا كفلسطينيين مقيِّدين في مركب واحد، وحجم التآمر علينا وعلى قضيتنا وصل لحالة غير مسبوقة من القهر، وغدت سفينة "الكل الفلسطيني" تترنح في بحر الظلمات الإسرائيلي والأمريكي، وإن خياراتنا في ظل حالة الانقسام غدت محدودة، واتجاهاتنا لكيد الأعداء تبدو مكبلة، وهذا يتطلب منا ممارسة لغة في الخطاب تجمع ولا تفرق، وتهيئ السبل للمِّ الشمل ووصل ما انقطع من علاقات يمكن أن نستعيد ألقها لإنقاذ ما يمكن انقاذه من حالتنا الوطنية، والتي صدَّعت جدران وحدتها سلطة الفرد وأجندات القبيلة والحزبية بتسلطها، ووضع يديها على كل المقدرات والقرارات الوطنية من خلال تصدرها لمشهد الحكم والسياسة، بعيداً عن منطق الشراكة والتوافق الوطني.
منظمة التحرير: الشرعية والعمل المطلوب
إن "حجر الزاوية" لإصلاح واقعنا السياسي هو في استعادة منظمة التحرير لمكانتها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وهذا يتطلب تحقيق ما نادينا به وانتظرناه منذ عدة عقود؛ أي أن يكون "الكل الفلسطيني" حاضراً تحت مظلتها، ومشاركاً مع الآخرين في الحفاظ على شرعية هذا الإطار الوطني العتيد، والذي تشكل عبر نضالات وتضحيات وجهود متميزة بذلها الرئيس الراحل ياسر عرفات (رحمه الله) لعقود طويلة؛ باعتبارها إنجازاً وطنياً حافظ على شخصيتنا الثورية وحمى قضيتنا وهويتنا الفلسطينية، وفرض لنا موقعاً تحت شمس الأمم كشعب محتل يناضل من أجل حقه المشروع في التحرير وتقرير المصير.
إن السؤال اليوم لكل فلسطيني حريص ومتشبث بهذا الإطار الوطني العريق، لماذا تظل الأبواب مؤصدة في وجه حركة حماس والجهاد الإسلامي، ومنعها - مع سبق الإصرار والترصد - من الولوج تحت سقف هذه المظلة التي تمثل "الكل الفلسطيني"؟! ولماذا السكوت عن حالة التهميش التي تتعرض لها المنظمة منذ اتفاق أوسلو، وخاصة بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، وجعلها فقط مطيَّة لخدمة جهات متنفذة في قيادة السلطة للتلاعب بها، بعيداً عما يُفترض أن تكون عليه من الهيبة والمكانة والمرجعية لكل ما يتم اتخاذه من مواقف استراتيجية وقرارات مصيرية؟!
لا أجدني أختلف كثيراً مع الصديق حسن عصفور في انتقاداته لكل من يحاول التقليل من منظمة التحرير، فأنا أشاركك الرأي وأصطف معك في أهمية الحفاظ على هذا الإطار الوطني الجامع، وما يتطلبه ذلك من أن نعض عليه جميعاً بالنواجذ، وألا نسمح لأحد بإهانته وامتهانه أو تقزيمه، ولكن السؤال الذي يطرحه بوجاهة كل من هم خارجه من نوابض القدرة الفلسطينية: لماذا يتم الصمت عن تجاوزات كل من جعلوا هذا الإطار الوطني كالبيت المهجور؛ ينتفعون من مدخولات ملكيته ولا يسعون لإصلاحه وإعادة التأكيد على مرجعيته، من خلال تفعيله وتجديد هياكله ومؤسساته ؟!
ولماذا قاموا بتعظيم السلطة، وهيكلتها كمرجعية تخدم حكم الفرد؟! ولماذا اصطنعوا مؤسسات موازية وتمثيليات بديلة هي أشبه بالمنتجعات السياسية لترويض كل من ينتسب لهذا البيت الفلسطيني العريق، واملاء سياسات على شعبنا وفق مزاجية من هم في مشهد السلطة الفصائلية وسدنة الفرعون، ولسان حالهم يقول: "إللي مش عاجبه يبلط البحر".
إن حركة حماس والجهاد الاسلامي يا صديقي هما فصيلان فلسطينيان وكل واحد منهما يقدر منظمة التحرير، ولكن أليس من حقهما أن يكونا داخل هذا "البيت الفلسطيني العريق" بدل سياسة الاقصاء والتهميش، وتعمد تركهم طويلاً بالانتظار على قارعة الطريق؟!
صحيحٌ؛ قبل ثلاثين سنة كانت للإسلاميين تحفظات خاطئة ونظرة سلبية تجاه منظمة التحرير؛ لأنها من وجهة نظرهم كانت حكراً على فصيل بعينه، وكان يأتيها الرزق والدعم المالي الوافر من كل مكان لتنفق منه كيفما تشاء ولمن تشاء، وكانت تمثل للكثيرين من فصائل العمل الوطني "الحافظة المالية" لدفع رواتب قياداتها وكوادرها النضالية، وكانت حركة فتح –آنذاك – لها دالة واضحة على معظم فصائل اليسار الفلسطيني، إلا أن هذه الفصائل اليوم وفي سياق تمردها على حكم الفرد بدأت هي الأخرى كالإسلاميين تطالب بالإصلاح واعادة هيكلة مؤسسات هذا الصرح الوطني العريق، والذي نتمسك به ولا نختلف عليه.
لقد طرح د. سلام فياض قبل سنتين أو ثلاث فكرة أن يكون الجميع تحت هذه المظلة الوطنية، وأن تكون لها اليد الطولى في التوافق الوطني، ولكن للأسف لم تلق رؤيته - وهو السياسي المخضرم - أية التفاتة؛ لأن من هم في صدارة مشهد الحكم والسياسة لا يريدون رؤية غيرهم كشريك وطني يشاطرهم الرأي والمشورة والقرار.
الإسلاميون والعقد الاجتماعي المطلوب؟
دعني هنا أشير لصديقي العزيز - بكل تقدير ومحبة - إلى أننا وبرغم اختلافنا أيديولوجياً إلا أننا في السياق الوطني متفقون، وسنعمل ما وسعنا الاجتهاد على تعزيز منطق الشراكة السياسية في الحكم، وافساح المجال لما نتوافق عليه وطنياً من القواسم والأفكار؛ باعتبار ذلك هو الحادي لقافلتنا النضالية، والحارس الأمين لاتجاهات البوصلة في مسارها نحو القدس وفلسطين.
ولعلي هنا أُذكِّر صديقنا العزيز بخصومات سياسية سابقة كانت مع النائب محمد دحلان وبعض إخوانه في حركة فتح، ولكن مع إدراكنا جميعاً بأن الأخطاء التي وقعت يتحمل مسئوليتها الطرفان، جاء الاعتذار من الجميع. لا شك أن هذا الاعتذار قد مهد الطريق للتقارب الذي نشهده اليوم، حيث انفرجت أسارير العلاقة وحلَّ الوئام والتوافق يدل الخلاف والتناحر، وصار النائب محمد دحلان "أبو فادي" اليوم وتياره الإصلاحي الواسع شريكاً وربما – في القريب - حليفاً سياسياً إذا ما تطورت فرص الحياة السياسية وذهبنا للانتخابات الرئاسية والتشريعية. إن مشهد الحضور الفاعل والتنسيق القائم بين الطرفين من خلال "جمعية التكافل" لا تخطئه العين.
لقد نجحنا بعد الإقرار منا جميعاً بالخطأ، والاعتذار لشعبنا، أن نؤسس لحالة من التآخي والتصافي والتغافر والوئام، واليوم ربما نحن نتخاطب بلغة الصديق وصورة الحليف، حيث تقاربت خطوط العمل في إطار القواسم المشتركة وطنياً، وتخطينا زمن الاستهداف والتشويه والتحريض والتشهير إلى وضعية من الانسجام للعمل معاً، فالوطن لنا جميعاً "نحرره معاً ونبنيه معاً".
وعلى درجة أقل، ولكنها حالة تتطور يوماً بعد يوم، تلك العلاقة المتنامية مع الجبهتين الشعبية والديمقراطية، حيث كان لكل طرف في الماضي تحفظات على الطرف الآخر، وكان الشك في التوجهات وقراءة النيَّات هو سيد ما بيننا من اختلاف المواقف وغياب التوافقات.
اليوم، نحن نبدو أكثر تقارباً في إطار الرؤية الجمعية لمسيرات العودة وكسر الحصار، حيث يجد "الكل الفلسطيني" تمثيله داخل اللجنة الوطنية العليا، والتي تتحرك ضمن تفاهمات وجهود وطنية مشتركة، وتعمل بروح أن الودَّ الذي بيننا لن تفسده تباينات الرأي والموقف، حيث صارت العلاقة بين الجميع يحكمها الحوار والتوافق.
نعم، لم نبلغ حالة الكمال في علاقاتنا مع دحلان وتياره الاصلاحي ومع الجبهتين الشعبية والديمقراطية، ولكن كل المؤشرات تسوق إلى أن ما هو قادم يبعث على الاطمئنان ويبشر بخير.
كما أسلفت، فإن حركة حماس جاءت من خلفيات تحكمها الرؤية الدينية والنظرة الحدَّية في تناولها لحالة الصراع مع اسرائيل، وكانت قناعاتها في الآخر يشوبها التسامح أحياناً وغياب الرؤية السياسية المتوازنة، ولكنها اليوم هي في حالة تصالح مع الكل الفلسطيني، وأظهرت مواقفها بكل الوضوح في ورقتها السياسية الجديدة، وأحسبها قد طوت صفحة الماضي بروح "اللي فات مات، ونحن أولاد اليوم".
ختاماً.. أتمنى على الرفيق حسن عصفور أن يتعامل في كتاباته وما يطرحه من رأي على الفضائيات بتلك الروح الإيجابية التي نحاول مع الخيِّرين تطويرها وطنياً، حتى يمكننا جميعاً نشر الشراع والتحرك بسفينة الوطن إلى شاطئ الأمان.
إن ما شاهدناه في اجتماع موسكو من حالة للعجز والفشل التي ظهرت عليها فصائلنا الوطنية والإسلامية يستدعي حقيقة منا القلق واستشعار الخطر، حيث كان هناك في المقابل مؤتمر وارسو، والذي شكل مشهداً لنجاح الدبلوماسية الإسرائيلية، حيث تمكن نتانياهو من تحقيق اختراق تطبيعي واسع من ناحية، وتمكن مع حليفه الأمريكي من حرف بوصلة بعض دول الأمة العربية باتجاه إلباس إيران ثوب الشيطان، والتواطؤ مع إسرائيل لاستهداف الجمهورية الإسلامية، عبر تشكيل منظومة من التحالفات التي تُخرج إسرائيل من دائرة العداوة والصراع، والتفاهم معها ضد دولة إسلامية مركزية في المنطقة، وتسويق الاتهامات الباطلة ضدها!!
ورغم حالة الاصطفاف والتحالفات التي عليها دول المنطقة، فإن علينا نحن الفلسطينيين ألا ننسى بإن إيران لم تبخل يوماً في الوقوف إلى جانب المقاومة الفلسطينية ودعمها بالمال والسلاح حين خذلتنا - للأسف - دول عربية كانت هي الأقرب جغرافياً وعاطفياً منا ومن قضيتنا.
مصر.. حسام حسن يتحدث عن خلافه مع محمد صلاح والتأهل للمونديال
13 أكتوبر 2025
