في محاولته إنقاذ فرصته للبقاء في المشهد السياسي الإسرائيلي، حتى وإن لم يكن في صدارته، بدا واضحاً في الساعات الأخيرة، أن نتنياهو قد فَرفطت روحه، وطفقت أجنحته تضرب هنا وهناك، استبسالاً من أجل البقاء في قلب السياسة أو على طرفها، وتملصاً من ملاحقات قضائية ستقبض عليه عاجلاً أم آجلاً.
لعل من المفارقات، أن نتنياهو هذا، الذي حظي ببعض إشارات الإستحسان في الإقليم، وتقرّب منه البعض المصاب بعمى الألوان؛ لم يلقَ وهو يحاول إنقاذ نفسه، استحسان جيسون غرينبلات، حليق الرأس مستشار ترامب بشأن إسرائيل سابقاً، ومُمثلهُ الخاص الى المنطقة ومبعوثُة الى أية مفاوضات. ففي محاولته المستميته للنجاة ودفع التحالفات الحزبية الناشئة التي تشكلت لإسقاطه، لجأ "بيبي" الى أحفاد الحاخام المهووس مئير كهانا الذي قتله تطرفه في العام 1990 في نيويورك، وهؤلاء لديهم حزب أسموه "القوة اليهودية" تشير الإستطلاعات أنه لن يجتاز نسبة الحسم لكي يصل الى "الكنيست". لكن نتنياهو أبرم اتفاقاً مع تحالف "القوة اليهودية" و"البيت اليهودي" فوجد نفسه هو مع هذين الحزبين، أمام اعتراض جوهري من قبل أعتى منظمتين ومجموعتي ضغط صهيونيتين في الولايات المتحدة، وهما "آيباك" و"اللجنة الأمريكية اليهودية". فقد رأت هاتان المنظمتان، أن توجهات نتنياهو ستضع في أيدي منظمات مقاطعة إسرائيل سلاحاً ماضياً. أما غرينبلات، بصفته ومن موقعه، فقال موجهاً كلامه الى نتنياهو علناً:"لا ينبغي أن يكون هناك محلٌ للعنصرية وانعدام التسامح، لا في إسرائيل ولا في أية ديموقراطية أخرى"!
معنى هذا الكلام، أن السياسة قبضت على نتنياهو متلبساً قبل أن تقبض عليه الشرطة. والطرفان، السياسة والشرطة، من البيت الصهيوني المتطرف نفسه. ونتذكر هنا أن الممثل الأمريكي في هذا البيت، لديه ما يسمى "صفقة القرن" التي يحرص هو وحاخامات وملهمو البيت، على تجنيبها اعتراضات اصحاب الخزعبلات اليهودية الأكثر جنوناً وتطرفاً. فلم يكن التباطؤ المتعمد للإعلان عن تفاصيل "الصفقة" تحسباً من ردود الأفعال العربية. فهذه لا يكترث لها الأمريكيون، وبخاصة الإدارة الراهنة التي لا تستحي من توجيه الإهانات لأصدقائها علناً. لقد كان التريث، انتظاراً لتغييرات إسرائيلية تستكمل تكريس النمط المتشدد والعميق والمُنظم ــ لا العشوائي ــ من الصهيونية الدينية المتطرفة، التي تكرّس فلسفة الكراهية على طريقتها، وتمارس الإستعلاء والإحتقار، ليس ضد من يعارضونها أو ضد أعدائها التقليديين وحسب، وإنما كذلك ضد اليهود العلمانيين والليبراليين في إسرائيل وفي العالم وحتى ضد معتنقي الصهيونية الممزوجة ببعض أفكار إشتراكية أو قومية!
ليس معنى غياب نتنياهو عن الساحة السياسية، أن الأمور من المنظور الفلسطيني ستصبح أفضل، طالما أن الحال الفلسطينية بقيت كما هي في غيبوبتها، منشغلة بحماقات اخترناك وفوضناك ورفضناك. إن القراءة العميقة والمتأنية لتفاعلات الاستحقاق الانتخابي المقبل في إسرائيل، تؤشر الى أمر جد خطير، وهو أن مكونات التطرف الصهيوني، دخلت طوراً جديداً، من استراتيجيتها الشاملة، وفتحت جبهة جديدة من العمل في داخلها، لكي تتخلص من ظواهر تراها معيبة وفاسدة وغير توراتية رافقت حقبة نتنياهو، تسهيلاً للانطلاق الى عملية الفرز في إسرائيل وفي الإقليم. فالصهيونية المتطرفة استأنست بواقع الحال العربية الراهنة، وتوهمت أنها صنعت للعرب الذين تبقى لديهم الحد الأدنى من الاعتزاز بالهوية؛ عدواً آخر من وراء ظهرهم وفي جوارهم الشرقي، لكي يتفشى ويتكاثر ويعم، أنموذج العربي الذي يمتدح إسرائيل ويغرق في الوهم الساذج، بأنها تحمي أمنه القومي!
أغلب الظن أن نتنتياهو المشدود الآن بين الموج السياسي العاتي والملاحقات القضائية، لن يبقى له دور، غير أن الأمور لا تأخذ مجراها لصالحنا. فدولة الإحتلال والقوى الباغية التي وراءها، لا يحرصون على المراجعة وعلى نقد منهجيات عملهم وتغيير التكتيكات والحفاظ على هيبة القانون وتكريس ديموقراطيتهم بينهم، لأجل سواد عيوننا، وإنما من أجل المزيد من قوتهم وفاعليتهم. لذا فلا أمل بغير استراتيجيات مضادة تقوم على قواعد العمل الصحيحة ووحدة الرؤية والموقف، والإفاقة من الغيبوبة، والصحو لإنهاء الإنقسام واستعادة المؤسسات والتعقيم من الفساد والرقاعة السياسية، والتمكين للإرادة الشعبية.
