هل فقدت التنظيمات الاتجاه؟

thumb (2).jpg
حجم الخط

مهند عبد الحميد

أثناء الأزمات تتعرف الشعوب على أحزابها ونخبها وقياداتها، فتكتشف من يملك البوصلة والمعايير ويسير في الاتجاه الصحيح، ومن يفتقدها ويرتكب الأخطاء الكبيرة والصغيرة، تتعرف على القوى والنخب التي تكتشف وتمسك بالمشترك الذي يصون المصلحة العليا، وتتعرف على القوى التي تبقى أسيرة انغلاقها وفئويتها ولسان حالها من بعدي الطوفان، وتتعرف أيضا على عناصر القوة والضعف وعلى صمام الأمان. 
إذا انتقلنا من المبادئ العامة إلى الاستجابات والتطبيق سنكتشف قليلا مما يسر وكثيرا مما لا يسر. الموقف من صفقة القرن العملي والنظري، مواقف التنظيمات من بيان موسكو، الموقف من الضمان الاجتماعي، اجتماعات المؤسسات الرسمية، الإجراءات ضد قطاع غزة، مسيرات العودة، هذه الموضوعات وغيرها وضعت النقاط على الحروف وشكلت أداة قياس لأهلية التنظيمات والقيادات والنخب.  
أولا: إن الاعتقاد بقدرة تنظيم كبير على حسم السيطرة كتنظيم حاكم ومتحكم في مركز القرار الوطني وداخل المكان في الضفة او القطاع او الخارج  يعد بمختلف المقاييس ضربا من العبث، فبعد ردح زمني طويل من التحولات المجتمعية والسياسية، لا بديل عن الشراكة استنادا للمصلحة الوطنية العليا ولمبادئ الديمقراطية. 
ان اعتقاد حركة حماس بأنها تستطيع فرض سلطتها المنفردة على قطاع غزة، دون شراكة الى ما لا نهاية غير ممكن دون فصل القطاع عن الضفة وتكريس انقسام الحركة السياسية والمجتمع. وفي الجهة الأخرى فإن اعتقاد حركة فتح بأنها تستطيع تشكيل حكومة في الضفة دون شراكة، وتحديدا، بمعزل عن مستوى من المشاركة الطوعية مع حركتي حماس والجهاد أساسا  والقوى الحية والفاعلة الأخرى، هذا الاعتقاد غير ممكن تنفيذه دون تعميق حالة التفكك السياسي والمجتمعي في الداخل والخارج الفلسطيني.
ثانيا: لكل تنظيم برنامجه الخاص الذي قد يكون جذريا، أو معتدلا قابلا للتطبيق ومتوائما مع القانون والشرعية الدوليين ومع ميثاق الأمم المتحدة، ويحظى بتأييد ودعم عالمي وعربي، او قد يكون برنامجا أيديولوجيا وحقوقيا غير قابل للتطبيق، ولا يحظى إلا بتأييد النزر القليل من الدول والقوى. لا يمكن للبرنامج الخاص ان يكون برنامجا مشتركا إلا في حالات قليلة. لهذا تلجأ التنظيمات الى البرنامج المشترك الذي يسمى برنامج الحد الأدنى الوطني، وغالبا ما يكون قابلا للتطبيق في المدى المباشر والمتوسط، ويحظى بتأييد أكثرية دول العالم. وبهذا يكون لكل تنظيم برنامجان خاص يضعه التنظيم بما يتطابق مع مبادئه وأيديولوجيته ومصالح القوى الاجتماعية التي يعبر عنها ويخدمها، وبرنامج مشترك يعبر عن الحد الأدنى المشترك لكل القوى وفئات الشعب. وفي الغالب تتعامل القوى الجذرية مع الحد الأدنى كبرنامج مرحلي وبرنامجها الخاص تتعامل معه كبرنامج استراتيجي. وتطابق قوى أخرى بين المرحلي والاستراتيجي انسجاما مع مصالحها. 
لدينا مشكلة فلسطينية في تحديد البرنامج المشترك، وعنوان هذه المشكلة في الواقع هي تنظيمات الإسلام السياسي والتقدم الذي أحرزته حركة حماس في وثيقتها له صفة توفيقية غير منسجمة، وأغلب الظن انه موجه للاستهلاك والدعاية الخارجية، في الوقت الذي لم يتأثر فيه خطابها السياسي والإعلامي الداخلي بالأفكار والتعديلات الجديدة وبقيت قواعد وجماهير التنظيم معبأة بالأفكار والسياسة السابقة. حركة الجهاد منسجمة في خطابها السياسي، لكنها لا تقترب من البرنامج المشترك وترفضه من حيث المبدأ، معززة بذلك انسداد مساعي البحث عن مشترك. 
ثالثا: البرنامج المشترك يحتاج الى حامل مشترك يضم كل ألوان الطيف السياسي والمستقلين والحركات الاجتماعية والنقابات والاتحادات الشعبية والمنظمات الشبيبية والنسوية وغير ذلك. وفي التجربة الفلسطينية شكلت منظمة التحرير هذا الحامل للبرنامج الذي مر في أربعة أطوار. الأول برنامج بوجود قيادة فلسطينية تابعة للنظام العربي وللاتجاه الأقوى فيه وهو النظام الناصري وكان برنامج المنظمة اقرب الى البرنامج الناصري. الطور الثاني،  قيادة مستقلة نسبيا استندت للكفاح المسلح في الصعود الى دفة القيادة واعتمدت برنامجا وطنيا تحرريا دعاويا مستقلا. الطور الثالث، تغير البرنامج  الى برنامج الانتفاضة "وثيقة إعلان الاستقلال" وكان يستند إلى إرادة المنتفضين، والى الشرعية الدولية وتأييد أكثرية دول العالم بما في ذلك الدول العربية، تغير البرنامج وبقيت الخرائط السياسية والتنظيمية على حالها، باستثناء دخول ممثلين لشرائح برجوازية في عضوية المجلس الوطني ومؤسسات المنظمة الأخرى، وتعويم العضوية بما يعزز سيطرة الاتجاه المركزي حركة فتح. الطور الرابع، تغير البرنامج السياسي عبر اتفاق أوسلو الذي ترافق مع تغير محدود في الخرائط السياسية والتنظيمية بانتقال الجبهتين الشعبية والديمقراطية الى مواقع المعارضة، وبدخول بعض الشرائح البرجوازية التي لها وزن اقتصادي كبير إلى الحلبة السياسية. وباحتدام معارضة قوى الإسلام السياسي للاتفاق ولسلطته، يمكن القول ان مرحلة أوسلو شهدت تضعضعا للمشترك، فحدثت شروخ بين الداخل والخارج وبين السلطة والمعارضة. ولم تتمكن الانتفاضة الثانية من ترميم وإعادة المشترك بالعكس فقد عززت في محصلتها صعود الإسلام السياسي وأضعفت الاتجاه المركزي الذي عبرت عنه حركة فتح، واصبح التنازع على السيطرة يقطع الطريق على إعادة بناء المشترك.  
رابعا: كشف اجتماع التنظيمات في موسكو اختلافا عميقا حول بديهية مكانة منظمة التحرير. فالمنظمة من جهة هي الجبهة المتحدة الحامل للبرنامج المشترك، والأهم ان المنظمة هي المجسد للهوية والكيانية الفلسطينية وبناء على ذلك اعتمدت ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني على صعيد فلسطيني وعربي ودولي وإقليمي. وهي الوطن المعنوي والرمزي لعموم الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، وهي النظام السياسي الفلسطيني المعترف به والمسؤول نظريا وأدبيا وعمليا عن شؤون الشعب الفلسطيني في كل مكان. بهذا المعنى تعتبر المنظمة مرجعية، ولا تفقد وصفها الوظيفي، بوجود خلافات ومشاكل في تمثيل القوى السياسية، وتشوه بيروقراطي وترهل جهة فلسطينية وضع شروط من أي نوع كي تقر او تعترف بالمنظمة. التمثيل لا يخص جهة دون أخرى، بل يشمل الشعب برمته. كل دول العالم تمثل شعوبها سواء كانت ديمقراطية او غير ديمقراطية قامعة لشعوبها، فاسدة او غير فاسدة، تقدمية او رجعية. تغيير النظام للأحسن مسألة أخرى. منظمة التحرير هي النظام والدولة العضو المراقب في الأمم المتحدة هي التي تمثل الشعب الفلسطيني. أما الإصلاح والتغيير والديمقراطية فهذا لا ينبغي ان يوضع شرطا للاعتراف وهو موضوع مستقل عن التمثيل. استغرب شخصيا موقف حركة الجهاد الفلسطيني التي نشأت من داخل الوطنية الفلسطينية، وميزت مواقفها عن الإسلام السياسي، ان تعترض على بند ان المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ما لم تتم الاستجابة لشروط!!