الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
صفات العظماء :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصاله الحميدة، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى موضوع مباسطته صلى الله عليه وسلم لجلسائه واتساعه لهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام ينبسط لجلسائه انبساط الانطلاق الشرعي المباح.
قبل أن أمضي في الحديث عن هذه الخصلة الشريفة، هناك أشخاصٌ مرنون، أينما حلوا وأينما جلسوا يأنَسون ويؤنسون، يألفون ويؤلفون، ينبسطون مع من حولهم، لا تشعر أنهم غرباء، لا تحس بفوقية في سلوكهم، ولا انزواءٍ في تصرفاتهم، ولا عنجهية في حركاتهم وسكناتهم، تحس أنهم منك وأنت منهم، هذه صفات العظماء، الأُلفة، الأنس، قد تشعر إذا كنت في مستوى أخلاقي رفيع أن هذا الإنسان العظيم قريبٌ منك، و إن النبي عليه الصلاة والسلام فيما أثر عنه أنه ما من صحابيٍ عامله إلا شعر بأنه أقرب الناس إليه.
وإذا أردت أيها الأخ الكريم أن تنشر الحق، وأن تدعو إلى الله، وأن يكثر الخير منك ينبغي أن تقلِّد هذه الصفة الرفيعة في رسول الله، ينبغي أن تأنس بالناس وأن يأنسوا بك، أن تحبهم وأن يحبوك، أن تتواضع لهم كي يتواضعوا لك، أن تشعرهم بأنك قريبٌ منهم، تتفهم مشكلاتهم، تتألم لآلامهم، تفرح لفرحهم، يعنيك ما يعنيهم.
المؤمن يألف و يؤلف :
لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع أصحابه يبسط إليهم رداءه، ويطلق لهم وجهه دون أن يشعرهم أنه نبيٌ عظيم، وأن بينه وبينهم مسافاتٍ شاسعة، هذا الشعور لم يكن عند أصحاب رسول الله مهما بالغوا في أدبهم معه، إلا أنهم يشعرون أنهم قريبون منه، وقريبٌ منهم، هذا كلام عام، لكن لو أردنا التفاصيل كيف؟
أنت رجل دين، داعية، متفهم لكتاب الله، ولسنة رسوله، هدفك نبيل، جلست مع أُناسٍ تحدثوا عن بناء البيوت، قد تشعر بالانقباض، قد تنصرف عنهم وعن حديثهم، قد تشتغل بشيء، تفتح كتاباً، فهذا التصرف بمَ يشعرهم؟ أنك فوقهم، وأنك في مستوى رفيع فوق مستواهم، هذا يبعدهم عنك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس مع أصحابه وتحدثوا في حديثٍ شاركهم في هذا الحديث، إذا تحدثوا في التجارة مثلاً، استمع إليهم وأدلى بدلوه في هذا الموضوع، و إذا تحدثوا عن الأمطار، استمع إليهم وأدلى بدلوه في هذا الموضوع، و إذا تحدثوا عن مشكلاتٍ يعانيها المجتمع، استمع إليها وأدلى بدلوه في هذا الموضوع، فالتفاصيل التي تؤكد هذا الخلق الرفيع هو أن تشارك الناس في الحديث، هناك أناسٌ ضيقو الأفق إذا طرح موضوع مباح ولا أقول: محرَّم، إن طُرح موضوع مباح ابتعدوا عن هذا الموضوع، وظهر اشمئزازهم منه، وظهر ترفعهم عن الخوض فيه، حتى أشعروا الحاضرين أنهم في برجٍ عاجي وهؤلاء في الحضيض، هذا السلوك ليس كاملاً، هذا السلوك لا يؤلف القلوب ولا يجمع النفوس، كان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع أصحابه وتحدثوا في حديثٍ مباحٍ من أمر الدنيا، شاركهم في الحديث تأليفاً لقلوبهم، وتطييباً لخواطرهم، وإيناساً لهم.
فعن خارجة بن زيد أن نفراً دخلوا على أبيه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقالوا:
((حَدِّثْنَا عَنْ بَعْضِ أَخْلاَقِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : كُنْتُ جَارَهُ فَكَانَ إِذَا نَزَلَ الوحي بَعَثَ إِلَىَّ فَأَتَيْتُهُ فَأَكْتُبُ الوحي ـ سيدنا زيد كان من كُتَّاب الوحي ـ وَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا ))
[البيهقي عن خارجة بن زيد]
أؤكد على أنك إذا أردت أن تدعو إلى الله، و أن تنشر الخير، و أن تؤلف القلوب، عليك أن تشعر الحاضرين أنك واحدٌ منهم ولست فوقهم، وأنه يعنيك ما يعنيهم، يسرك ما يسرهم، يؤلمك ما يؤلمهم، تهتم لما يهتمون به، فلا أدل على هذا الخلق الرفيع من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشارك في الحديث المطروح إذا كان مباحاً:
((...وَكُنَّا إِذَا ذَكَرْنَا الدُّنْيَا ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الآخِرَةَ ذَكَرَهَا مَعَنَا، وَإِذَا ذَكَرْنَا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ مَعَنَا))
[البيهقي عن خارجة بن زيد]
وقد تجد داعيةً صغيراً ليس على شيء، فإذا خاض من حوله في موضوع مباح مَطَّ شفتيه وازورّ عنهم، وأشعرهم أنه فوق هذا المستوى بكثير، ليس هذا من خلق المؤمن الذي يألف ويؤلف، هذه نقطةٌ أولى أيها الأخوة.
التكلف و التصنع يبعدان الإنسان عن الآخرين :
وروى الإمام أحمد عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ:
((أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَكَانَ طَوِيلَ الصَّمْتِ قَلِيلَ الضَّحِكِ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ فَيَضْحَكُونَ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ))
[ أحمد عَنْ سِمَاكٍ]
بشر متواضع، أحياناً مدرس يدرس أخطر مادة، وهو في مستوى رفيعٍ جداً، وطالب يعلق تعليقاً مضحكاً، فالطلاب يضحكون، فما الذي يمنع هذا الأستاذ الجليل أن يضحك معهم لهذه الطرفة؟ إذا ضحك معهم أو تبسم معهم كان قريباً منهم وأشعرهم أنه منهم، وكان واقعياً وطبيعياً، أما إذا ازورّ عنهم وترفع عن هذه الطرفة، فقد أشعرهم أنه فوقهم وأنهم دونه بكثير، ألا تحب أن تألف وتؤلف؟ ألا تحب أن تؤنس من حولك؟ هكذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم.
((...وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَذْكُرُونَ عِنْدَهُ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أُمُورِهِمْ فَيَضْحَكُونَ وَرُبَّمَا تَبَسَّمَ))
[ أحمد عَنْ سِمَاكٍ]
فلا شيء يبعدك عن المجتمع كالتصنُّع والتكلُّف، ولا شيء يدنيك من الناس ويجعل حبك في قلوبهم كأن تكون واحداً منهم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته فهو واحدٌ من أهل بيته.
النبي كان طبيعياً لا تكلف عنده و لا تصنع :
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:
((لم يَكن أَصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتحزِقِينَ - أي متقبضين - ولا مُتماوتِين - حانيًا رأسه، متطامنًا، منكمشًا، متمسكناً، فهذا متماوت و دائماً منقبض النفس و عابس الوجه - ..... فَإِذا أُريدَ أحدٌ مِنهم عَلى شَيءٍ مِن أَمر الله دَارت حَماليقُ عَينيهِ كَأنه مجنُونٌ))
[ الأدب المفرد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن]
إنسان طبيعي لطيف، يأنس، ويُؤنس، يألف ويُؤلف، فإذا أريد منه شيءٌ جللٌ عظيم انطلق إليه كأنه بطل.
لا زلت أركز على نقطة واحدة من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان طبيعياً، لا تكلف عنده و لا تصنع، فهو عفوي، بسيط، يألف و يُؤلف، يستمع، يضحك مما يضحك منه أصحابه، ذكروا أمر الدنيا يذكرها معهم، ذكروا أمر الآخرة يذكرها معهم، ذكروا شيئاً من حطام الدنيا المباح يذكره معهم.
العاقل يشعر من حوله أنه واحد منهم :
وروى الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:
((جَالَسْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ))
[الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ]
أي إذا كانت لأحدكم مكانة دينية، وقام بنزهة مع أصدقائه، ينبغي أن يبدو وكأنه واحدٌ منهم، أن يعنيه ما يعنيهم، أن يضحك مما يضحكون، أن يشعرهم أنه واحدٌ منهم، هذا خلق رفيع، و هذا ذكرني بموقفٍ عظيم لسيدنا الصديق رضي الله عنه و أنتم تعرفون القصة ولا شك:
فعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ـ بصفاء، بانشراح، بسمو ـ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ ـ عدنا إلى البيت وانغمسنا في أمور الحياة، شؤون البيت، شؤون العمل - فَنَسِينَا كَثِيرًا - هذا الحال الطيب نفقده - قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا - ما هذا التواضع؟! - فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَاكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))
[مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ]
إنسان يشكو لك همه، يشكو لك زوجته، يشكو لك أولاده، يشكو لك ضيق ذات يده، يشكو لك صعوبةً في عمله، أنت كإنسان راقٍ فماذا عليك أن تقول؟ لا، أنا عكسك، أنا التي عندي ما شاء الله امرأة نادرة الأخلاق، لا تقل كذلك، بل قل له: معظم النساء كذلك، طيب خاطره، أشعره أنها قضية عامة، قضية يعاني منها كل الأزواج، أشعره أن هذا الابن ليس شاذاً هكذا معظم الأبناء، هذه مشكلة عامة، طيِّب قلبه، لا تجعل نفسك فوقه، لا تنفرد بميزات ليست عنده، ليس هذا من خُلق المؤمن، ألِّف، لا تجعلهُ يشعر بالوحشة والانفراد.
* * *
مزاحه صلى الله عليه وسلم مع جلسائه :
والآن ننتقل إلى موضوع آخر من موضوعات شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو مزاحه صلى الله عليه وسلم مع جلسائه وإدخال المسرَّة عليهم، كان عليه الصلاة والسلام يمزح مع أصحابه لإدخال السرور عليهم.
سمعت مرةً أن أحد علماء الشام الكبار - الشيخ بدر الدين هذا شيخ الشيوخ - كان يمشي في الطريق، وكان حاد الذكاء، فطناً، فالتفت فجأةً نحو اليمين فإذا أحد تلاميذه يضحك، قال له: ما الذي يضحكك؟ فالتلميذ نظر إلى جورب الشيخ، جورب الشيخ نزل، فقال الشيخ: الحمد لله الذي أنزل هذا الجورب وأدخل على قلبك السرور، فما ألطف هذا الكلام!! أنت لا ترقى عند الله عزَّ وجل إلا إذا أشعرت الناس أنك واحد منهم، وأنك تحبهم، وترعى مشاعرهم، وتتألف قلوبهم.
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
[ سورة آل عمران: 159 ]
يروون بالتاريخ عن أحد كبار القواد الذين فتحوا قارة بأكملها، مرة تفقد أحد حراسة فرآه نائماً، حارس ونائم!! فأمسك سلاحه بيده ووقف مكانه، هذا الحارس شبع من النوم ثم فتح عينيه فإذا هذا القائد العظيم يقف في الحراسة مكان هذا الجندي وسلاحه بيده.
المؤمن طليق مبتسم محبّب :
كن قريباً من الناس، كن طبيعياً، لا تكن متكلفاً، لا تستخدم أساليب الكهنوت، لا تجعل بينك وبين الناس هوةً كبيرة، لا تشعرهم أنك فوقهم بكثير، أشعرهم أنك واحدٌ منهم، أذكر لكم أنني قرأت مرة تقديماً لكتاب عن شمائل النبي عليه الصلاة والسلام يقول: " يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدَّست الوجود كله ورعيت قضية الإنسان، يا من زكَّيت سيادة العقل وأنهيت غريزة القطيع - الشاهد - يا من هيأك التفوق لتكون واحداً فوق الجميع، فعشت واحداً بين الجميع "، هذا ملخص هذه الخصلة الرائعة في رسول الله، هو متفوِّق بحيث إنه بإمكانه أن يعيش فوق الجميع لكنه لم يعش إلا بين الجميع كواحدٍ منهم.
فكان عليه الصلاة والسلام يمزح لإدخال السرور على قلوب أصحابه، لو ترك الطلاقة مع أصحابه، ولزم العبوس والانقباض لألزم أصحابه بهذا الخُلُق، وكذلك التابعون، و لصار ديننا دين حُزانى، شخص سألني: فلان؟ قلت له: نعم، قال: هذا أخذ خاطر.
هو دائماً عابس، دائماً مكتئب، أخذ خاطر، المؤمن طليق، مبتسم، محبَّب، قال: لو أنه ترك الطلاقة في وجهه، والانبساط في خلقه، ولزم العبوس والانقباض، لألزم أصحابه بهذا الخُلق، وكذلك التابعون، فأصبح هذا الدين دين انقباضٍ، ودين اكتئابٍ، ودين عبوسٍ، وديناً ينفر منه الناس.
النبي لطيف مع أصحابه و يحمل رسالة عظيمة :
لكن بالمقابل روى الإمام البخاري في الأدب المفرد والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام:
(( لست من ددٍ ولا الدُد مني...))
[البخاري في الأدب المفرد والبيهقي عن أنس بن مالك]
دد أي لست محباً للضحك والمزاح واللهو والعبث، طبعاً النبي كان يمزح، وكان طليق الوجه، وكان منبسط الأسارير، و لكن لا يعني هذا أنه كان مغرماً بالضحك، لا يعني هذا أنه كان يسرف لإضحاك أصحابه، لا فهو جادٌ ويحمل هموم أمته، ويحمل رسالة كبيرة، إلا أنه ُيدخل على قلوب أصحابه السرور بهذا المزاح اللطيف.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لست من الباطل ولا الباطل مني))
[ الجامع الصغير عن أنس ]
هو يحمل رسالة، ويسعى نحو هدفٍ جليل عظيم، لكن لا بأس من أن يكون لطيفاً يمزح مع أصحابه، يدخل على قلوبهم السرور.
تحبب النبي للأطفال :
وفي الصحيحين عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
((إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ))
[ متفق عليه عن أنس ]
طفل صغير أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام كُنية، يا أبا عمير، كان معه عصفور صغير اسمه النغير، قال:
((... يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ))
[ متفق عليه عن أنس ]
تصور إنساناً يتربَّع على قمة المجتمع، نبوة على ملك، على عظمة، على علم، على وقار، على هيبة، مع الوحي والإعجاز، ومع ذلك يتحبب لطفلٍ صغير، سماه أبا عمير، يقول له:
((... يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ))
[ متفق عليه عن أنس ]
قل لي، واستنبط بعض العلماء من هذا الحديث أحكاماً كثيرة.
تهادوا تحابوا :
وروى الترمذي أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، كان يُهدي إلى النبي عليه الصلاة والسلام هديةً من البادية - يسكن بالبادية فيأتي بشيء من الحليب، أو شيء من السمن، أو شيء من الصوف - كان يهدي النبي صلى الله عليه وسلم هديةً من البادية. والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( تَهَادَوْا))
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
والتهادي تبادل الهدايا، وكان عليه الصلاة والسلام يجهزه إذا أراد أن يخرج إلى البادية.
أنت جئتنا بهذا السمن، خذ هذا قماش مثلاً، إذا كان الإنسان له صديق من أهل الريف الكرام، وجاءه بهديةٍ مما ينتج الريف، وأنت تسكن في المدينة، قد يشتهي أولاده الحلوى، قدِّم له علبة حلوى مما تشتهر به المُدن، هو يألف هذا الحليب واللبن والسمن، وهذه الحلوى لا يألفها ليست عندهم، إذا قدَّم لك هديةً من البادية، قدم له هدية من الحاضرة، هكذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فكان عليه الصلاة والسلام يقول:
((إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه))
[الجامع الصغير عن أنس ]
هو يجهزنا بمنتجات من البادية، ونحن نجهزه بمنتجات من المدينة.
الرجل لا يقيّم بشكله بل بجوهره :
كان عليه الصلاة والسلام يحبه، وكان زاهرٌ رجلاً دميماً، وكان عليه الصلاة والسلام دائماً ينظر إلى الحقائق، إلى الجوهر، الرجل لا يقيّم بشكله، فكان يحبه، ويداعبه، ويمازحه، ويهديه، وكان يقول:
((إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه))
[الجامع الصغير عن أنس ]
وكان دميماً، فأتاه النبي عليه الصلاة والسلام يوماً وهو يبيع متاعه في السوق.
((أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ - إلى هذه الدرجة المداعبة، كان اللهم صلِّ عليه طبيعياً، احتضنه من خلفه وهو لا يبصره - فَقَالَ الرَّجُلُ أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا - لا أحد يشتريني - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ))
[أحمد عَنْ أَنَسٍ]
وفي قول آخر:
((لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ))
[أحمد عَنْ أَنَسٍ]
أنت غالٍ كثيراً عند الله، المؤمن يشعر أن الله يحبه، قد يكون بالمستوى الاجتماعي ضارب آلة كاتبة، وقد يكون حاجباً، وقد تكون قلامة ظفره تساوي عن الله مليون إنسان من علية القوم، هو حاجب و لكنه يخاف الله، ويطيع الله، ويشكر الله، ويقدِّم من ذات نفسه لله، ويشتاق إلى الله عزَّ وجل، حاجب قد تعدل قلامة ظفره مليون إنسان من علية القوم التائهين الشاردين، هكذا ورد، ابتغوا الرفعة عند الله، قال له:
((... مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا - لا أحد يشتريني - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ))
[أحمد عَنْ أَنَسٍ]
هذه العلاقة العفوية الطبيعية أساسها الحب، أساسها المداعبة، أساسها تبادل الهدايا.
مزاحه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه :
وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ:
((أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ ـ في خيمة صغيرةٍ - فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ وَقَالَ ادْخُلْ فَقُلْتُ أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ رآها خيمة صغير جداً لعله يداعب النبي - قَالَ كُلُّكَ فَدَخَلْتُ))
[سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ ]
هنا نقف عند نقطة جديدة: كان عليه الصلاة و السلام يمزح مع أصحابه لكن هناك أشخاصاً لا يسمحون لأحدٍ أن يمزح معهم، لو تجرأ أحد ومزح معهم لأقاموا عليه النكير وعنَّفوه، هذا الصحابي الجليل مزح مع النبي، قال:
((أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ كُلُّكَ فَدَخَلْتُ))
[البخاري عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ]
مزاح لطيف، مهذب، أديب، ومن جملة ما ورد في مزاحه صلى الله عليه وسلم، ما ورد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي -أي يطلب أن يحمله على دابة - قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ قَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ))
[الترمذي عَنْ أَنَسٍ]
النبي عليه الصلاة والسلام بدأ يمزح مع هذا الصحابي الجليل.
وجاءت امرأةٌ فقالت: "يا رسول الله احملني على بعير؟ فقال: احملها على ابن بعير. قالت: وماذا أصنع به؟ وما يحملني يا رسول؟ قال: وهل يجيء البعير إلا ببعير؟"
أيضاً أُثر أنه كان يمزح مع أصحابه ولا يمزح إلا حقاً، أما هذه المرأة العجوز التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله ادعُ الله أن يدخلني الجنة؟ قال: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز. فولت وذهبت وهي تبكي، فقال عليه الصلاة والسلام أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول:
﴿ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾
[ سورة الواقعة : 35-37 ]
القصد أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤنس أصحابه، يطيب نفوسهم، يدخل على قلوبهم السرور والمِزاح هذه وظيفته في الحياة، تأليف القلوب، تلطيف الجو، تطييب القلوب، إدخال الفرح على قلب جليسك الذي تحادثه و يحادثك.
مزاح أصحاب النبي مع بعضهم :
وقد ورد في الأثر أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتمازحون فيما بينهم، فإذا جاءت الحقائق كانوا هم الرجال، أحياناً تجد في حياة الإنسان فصولاً متباينة، بينما تراه متواضعاً، ليِّن الجانب، رقيق الحاشية، يألف ويؤلف، فجأةً تجده كالأسد الهَصور؛ تجده شديداً، ومقداماً، وشجاعاً. قد تقول: والله شيء غريب، من هذا اللطف الشديد وهذه الوداعة التي لا حدود لها إلى هذه الشدة والقوة؟ هكذا كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله كانوا يتمازحون، فإذا كانت الحقائق؛ هناك غزوة، هناك أمر جلل، كانوا هم الرجال.
التوفيق بين مزاح النبي وبين نهيه عن المِزاح :
لكن هذا الكلام يدعونا إلى التساؤل: كيف يقول عليه الصلاة والسلام فيما ورد عن الترمذي في كتب الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدَةً فَتُخْلِفَهُ))
[الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]
كيف نوفق بين مزاحه صلى الله عليه وسلم وبين هذا النهي الصريح الواضح عن المِزاح؟ العلماء قالوا: هذا النهي محمولٌ على الإفراط في المزاح، فمن جعل المزاح شغله الشاغل فقد أسرف وتجاوز الحد، والنبي عليه الصلاة والسلام ينهى عن الإفراط في المزاح، ويبيِّن أن كثرة المزاح تُقَسِّي القلب، بل إن كثرة المزاح تورث العداوة، والأذى، والحقد، وجراءة الصغير على الكبير.
فالمعلم، والمدرس، وصاحب المنصب القيادي إذا مزح مزحاً لطيفاً وقليلاً يؤلف القلوب، أما إذا كثر مزاحه قلّت هيبته، وتجرأ عليه من هم دونه، مَنْ مزح استخف به، كثرة المزاح تُذهب الهيبة، كثرة المزاح تقسِّي القلب، تورث العداوة والبغضاء والحقد، وجرأة الصغير على الكبير.
وقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه: " من كثر مزاحه قلَّت هيبته، ومن مزح استخفَّ به"، والتفسير: من أكثر من المزاح، أو من مزح مزاحاً فيه أذىً، أو فيه تحقير لشخصٍ ما، أو لفئةٍ ما، ذهبت هيبته، و لربما لحقه الأذى، فهناك مزاح يسبب أذى و يلحق بصاحبه الضرر.
النهي عن المزاح المؤذي :
روى أبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا))
[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]
كإخفاء حاجة ثمينة، نقل خبر كاذب مفجع، هذا ليس مزاحاً، هذا مزاح فيه أذى، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا المزاح، فأي مزاح يسبب صدمة للشخص هذا مزاح محرَّم.
((لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا))
[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]
وروى أبو داود عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:
((حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا))
[أبو داود عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى]
ويوم الخندق كان زيد بن ثابت ينقل التراب مع المسلمين، فنعس - أراد أن ينام أو غلبه النوم - فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه وهو لا يشعر، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا المزاح يؤذي، إنه مزاح يخيف، و مزاح يحرج.
وروي عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رجلاً أخذ نعل رجلٍ فغيَّبها وهو يمزح، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام:
((لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلمٌ عظيم))
[الطبراني عن عامر بن ربيعة]
أحياناً يذهب شباب إلى المسبح أو إلى البحر، و يكون بينهم واحد من الذين يخافون السباحة، يدفعونه إلى لجة الماء دفعاً، فيصيح ويبكي، هذا ليس مزاحاً، كل مزاح يسبب صدمة هذا مزاح منهي عنه:
((لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلمٌ عظيم))
[الطبراني عن عامر بن ربيعة]
الملخص أن المزاح مندوبٌ إليه بين الأخوة والأصدقاء بما لا أذىً فيه، ولا ضرر، ولا قذف، ولا غيبة، ولا شَيْن في عرضٍ أو دين، ولا استخفافٍ بأحدٍ منهم. امزح مع أصدقائك وإخوانك وأهلك، من دون أذى، ولا ضرر، ولا قذف، ولا غيبة، ولا شَيْن لا في عرضٍ ولا في دين، ولا استخفافٍ بأحد، فإذا خلا المزاح من هذه الشروط أو من هذه النواقص كان مزاحاً مباحاً بل مندوباً إليه.
مزاح الرجل مع أهله مطلوبٌ ومحبوب :
قال: أما مزاح الرجل مع أهله وملاطفته بأنواع الملاطفة فمطلوبٌ ومحبوب وهو من أخلاق النبيين، "قالت السيدة عائشة له: أتحبني؟ قال: نعم كعقدة الحبل عقدة لا تفك، فكانت هذه الزوجة الطاهرة السيدة عائشة تسأل النبي عليه الصلاة والسلام من حينٍ إلى آخر تقول: " كيف العقدة؟ يقول: على حالها".
فالزوج عندما يمزح مع زوجته مزاحاً لطيفاً فهذا مما يؤلف القلوب، أحياناً تبذل من الجُهد فوق ما تطيق إرضاءً لزوجها، لأنه يطيِّب قلبها ويثني عليها ويشعرها أنها شريكته في الحياة.
مزاح الرجل مع أهله وأولاده، وملاطفتهم بأنواع الملاطفة مطلوبٌ ومحبوب، وهو من أخلاق النبيين.
أنا حقاً أرجو اللهَ من خلال هذه الدروس أن يكون بيت كلٍ منكم جنة، السرور بالبيت ليس له علاقة بمساحة البيت، ولا بفخامة الأثاث، وليس له علاقة بنوع الطعام، لكن له علاقة بارتفاع مستوى الإيمان، ممكن أن يكون كل بيتٍ من بيوت المسلمين قطعةً من الجنة، لأنه ليس فيها أجهزة لهو، فالبيت ملائكي، يُتلى فيه القرآن، تقام فيه الصلوات، يتحَدَّث فيه بكتاب الله وبسنة رسوله، ومع ذلك فالزوج يمزح مع أهله ويطيب قلبهم ويؤنسهم، وأولاده كذلك.
يقول سيدنا عمر وهذا قولٌ قد يبدو غريباً: " ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي - الصبي يحب المرح دائماً - فإذا التمس ما عنده وجد رجلاً".
بالحق هو رجل، إذا انتهكت حرمات الله شيء مخيف، يغضب، لكن إذا لم تكن معصية، و لا مخالفة قال: "ينبغي أن يكون الرجل في بيته مثل الصبي، فإذا التمس ما عنده -من حزم، من إرادة، من ورع، من تصميم- قال: وجد رجلاً".
لذلك قرأت كلمة أعجبتني هي: المؤمن الحق طفلٌ كبير. كيف؟ لأن الطفل عنده صفاء، و لديه براءة و طيب، لا يحقد، لاحظ أحياناً الأب يعاقب ابنه، بعد دقيقة يبتسم له الابن لأنه لا حقد عنده، الآن ضربه، بعد دقيقة واحدة تجده أقبل على أبيه ورمى نفسه في أحضانه، فهذا يعني أنه لا يعرف الحقد، بل عنده صفاء نفسي، و عنده ذاتية، و عنده عفو، لذلك قالوا: المؤمن طفلٌ كبير. طفل من حيث الصفاء، طفل من حيث العفوية، طفل من حيث العفو، طفل من حيث الذاتيَّة، يعبر عن ذاته، لا يقلد الطفل أحداً، لكنه رجل من حيث المروءة، من حيث الشهامة، من حيث العقل، من حيث الورع، من حيث الدين، هذا كلام سيدنا عمر و هو عميق جداً، و ينبغي أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا التمس ما عنده من حزمٍ وعزمٍ وتصميمٍ وقرارٍ حازم وجد رجلاً.
* * *
تبسم النبي في وجه أصحابه حينما يلقاهم :
بقي موضوعٍ قصيرٌ جداً، كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يتبسم في وجوه أصحابه حينما يلقاهم، قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
((مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ))
[متفق عليه عن جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
ما معنى ما حجبني؟ أي ما اضطرني أن أسأل حاجباً كي أدخل عليه، مفتوح بابه.
((مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ))
[متفق عليه عن جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
وروى الإمام أحمد عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ:
((كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا حَدَّثَ حَدِيثًا تَبَسَّمَ فَقُلْتُ لَا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّكَ أَيْ أَحْمَقُ – تضحك دائماً - فَقَالَ مَا رَأَيْتُ أَوْ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا إِلَّا تَبَسَّمَ))
[أحمد عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ]
فكان أبو الدرداء إذا حدث حديثاً تبسم اتَّباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عود نفسك الابتسامة والمؤانسة، وأقرب الناس إليك أهلك، خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي.
النبي قدوة و مثل لنا :
مرة ثانية: أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدرس عن شمائل النبي، ولاسيما عن مزاحه مع أهله وإخوانه، وعن مؤانسته وملاطفته وتواضعه وعفويته، أن يكون هذا الدرس مترجَماً سلوكاً في بيوتكم، و أن ينطلق أحدكم إلى بيته و يدخل على قلب أهله السرور.
ومرة ثانية وثالثة، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم، يقول لك أحدهم: البراد مليءْ. دعه خواء وابتسم، فأحياناً الإنسان يأنس باللطف والمودة أضعاف ما يأنس بالطعام والشراب واللباس، إذاً أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الدرس مطبقاً في حياتكم، وأن تغدو بيوتكم قطعاً من الجنة، لأنه ورد في الأثر: " جنة المؤمن داره".
المؤمن بيتيٌّ، أما غير المؤمن فسوقي، أين هو؟ بالمقهى، أين هو؟ بالنادي، أين هو؟ يسهر بالفندق. أما المؤمن فجنته داره، فإذا جعل الإنسان من داره واحة يستريح بها من عناء العمل، ومن تعب النهار، استأنف اليوم التالي العمل بنشاط، وهكذا كانت أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الأخوة المعلومات بصراحة ليس لها قيمة إطلاقاً، المعلومات ليس لها قيمة إطلاقاً كمعلومات، أما المعلومات فقيمتها بالسلوك والتطبيق، لو قرأت هذا الكتاب ألف مرة، وحفظته كلمةً كلمة، وأتقنت أحاديثه، وتخريجها، وتفاصحت على الناس به، ولم تكن بساماً ضحاكاً إذا دخلت بيتك، فلن تنتفع به إطلاقاً، الابن يحتاج إلى تأليف قلبِهِ، يحتاج إلى أب مازح، أب ودود، لكن كل شيء بقدر، و أقول لكم في نهاية هذا الدرس: " المزاح كالمِلح في الطعام، إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده " النبي نهى عن المزاح، نهى عن مزاح يؤذي، نهى عن كثرة المزاح، نهى عن الإفراط في المزاح، نهى عن مزاحٍ يخجل، يحرج، يصدم، فالمزاح كالملح في الطعام إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضده.
وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى نتابع موضوع شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، فهو القدوة التي أمُرنا أن نقتدي به، وهو المثل الذي أمرنا أن نسير في أثره، وهو القدوة والمثل والأسوة لقول الله عزَّ وجل:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
[ سورة الأحزاب: 21]