مسيرات العودة والخيارات الصعبة

طلال عوكل.jpg
حجم الخط

طلال عوكل

هناك جولة ميدانية جديدة لوفد أمني مصري رفيع المستوى، يتنقل بين إسرائيل وقطاع غزة، بعد أيام محدودة من عودة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، الذي أمضى في القاهرة أربعة وعشرين يوماً. نفترض واقعياً أن وجود وفد حركة حماس في القاهرة كل هذا الوقت، شكل مناسبة للتفاعل مع الجانب المصري، حول كل الملفات الفلسطينية، الأمر الذي يرفع السؤال عن سبب ودوافع عودة الوفد الأمني المصري الذي يتنقل فقط بين غزة وإسرائيل.
من الواضح أن الملف الأثير الذي اشتغل عليه وانشغل فيه الجانب المصري خلال السنوات المنصرمة، ونقصد ملف المصالحة، لم يعد هو الذي يحظى بأولوية التحرك، وإن كان من غير الممكن تجنب الحديث فيه ولكن بدون تركيز.
ومن الواضح أيضاً أن العلاقة بين حركة حماس والجانب المصري تنطوي على تقدم مطرد، وأن حماس تبدي استعداداً أكبر لدفع استحقاقات هذه العلاقة غير المتكافئة، لكن هذا التقدم لا يعني بالضرورة أن مصر راضية كلياً عن اداء حماس خصوصاً فيما يتعلق بملف المصالحة. يبدو أن مصر مضطرة لأن تتعامل مع الأمر الواقع، الذي يدعوها لتجاوز ملف المصالحة، وموقف السلطة وحركة فتح من طريقة وآليات التعامل المصري مع قطاع غزة، وفي الاتجاه الذي يساهم في منع انفجار الأوضاع تحت ضغط الحصار والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية التي تزداد وطأتها على سكان القطاع.
في الواقع فإن فتح معبر رفح بدون وجود موظفي السلطة الفلسطينية فيه وبدء تدفق البضائع من مصر إلى قطاع غزة، لا يكفي لإقناع حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة بأن مسيرات العودة قد حققت الإنجاز المطلوب وهو كسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل ويشكل المبرر الأساسي لاستمرار مسيرات العودة.
مع اقتراب عام على انطلاق مسيرات العودة في الثلاثين من آذار وبدون أن تلتزم إسرائيل بالتفاهمات التي سبق أن توصل إليها الوفد المصري بالتعاون مع ممثلي الأمم المتحدة، يعود ويطرح السؤال الكبير حول جدوى هذه المسيرات.
واقعياً فإن انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار، لا يمكن تقييم إنجازاتها فقط لكونها أوصلت رسالة للعالم أجمع بأن الفلسطينيين متمسكون بحقهم في العودة، وأنهم يرفضون السياسة الأميركية الإسرائيلية بهذا الخصوص.
إسرائيل تلاعبت كل الوقت بموضوع رفع أو تخفيف الحصار على قطاع غزة، فهي وإن أكثرت من التحذير بقرب انفجار الأوضاع، ومن الحديث النظري عن استعدادها لتخفيف الحصار لأسباب تتعلق بأهداف ومصالح إسرائيل، إلاّ أنها تربط بين رفع الحصار، وجاهزية فصائل غزة، للاستجابة واقعياً لأهداف صفقة القرن، التي تستهدف تهيئة القطاع لكي يكون الكيان الفلسطيني بديلاً عن رؤية الدولتين.
لم تعد إسرائيل تقبل بتخفيف أشكال النضال التي تستخدمها مسيرات العودة حتى تستجيب لمطالب تخفيف الحصار، وإنما رفع سقف مطالبها إلى وقف هذه المسيرات بشكل كامل، وبدون ذلك فإنها لا ترى معنى لتحقيق هدف الهدوء على حدود القطاع.
ويبدو أن إسرائيل تراهن على أن مصر وفق رؤيتها للأمور، وكذلك مندوبية الأمم المتحدة، ستكونان قادرتين على تخفيف حدة الأوضاع على الحدود، وأن حاجة حماس للأموال القطرية التي تغطي موضوع الكهرباء، والمساعدات الإنسانية، وبعض مشاريع التشغيل المحدودة، تشكل عاملاً إضافياً، لتعزيز المراهنة الإسرائيلية على أن الأمور ستظل تحت السيطرة، وبالمستوى الذي يمكن استيعابه.
الوفد المصري يتحرك في ظروف حساسة جداً، فالمسيرات تشهد تصعيداً والفصائل تطلق المزيد من التهديدات بقرب انفجار الأوضاع. وربما تشهد المناسبة السنوية لانطلاقها، زخماً مختلفاً، وأشكالاً مختلفة من الاشتباك، بينما إسرائيل منشغلة في الانتخابات التي قد تفضي إلى مشهد سياسي جديد.
في هذه الحالة فإن السلوك الفلسطيني عبر مسيرات العودة هدوءاً أو تصعيداً محسوباً، قد يشكل عاملاً مهماً في التأثير على نتائج الانتخابات وفي الاتجاه الذي يخدم نتنياهو.
وإذا كان من غير المتوقع أن يحصل الوفد الأمني المصري على استجابة من قبل حكومة نتنياهو لتخفيف الحصار، وتلبية طلبات حماس والفصائل فإن احتمالات، أن تبادر إسرائيل إلى تصعيد عسكري كبير، انطلاقاً من أن نتنياهو يواجه تحدياً كبيراً من القضاء ومن تكتل «أزرق ـ ابيض».
لم تشفع كل خطابات نتنياهو، التحريضية ضد أبناء جلدته من اليمين المتطرف الذين يتهمهم زوراً باليسار، كما لم تشفع له كل خطاباته حول ما حققه لإسرائيل من إنجازات، ولذلك فإنه قد ينتظر المبرر من الفلسطينيين لاستخدام الورقة الأخيرة له قبل موعد الانتخابات وهو التصعيد ضد قطاع غزة.
يفسر ذلك، عودة الوفد الأمني المصري إلى النشاط مجدداً من أجل منع تدهور الأوضاع، وإقناع الفصائل بعدم توفير أي مبرر لإسرائيل، يمكن أن يقدم مساعدة لنتنياهو، الذي لا يرغب أحد في بقائه أو عودته إلى رئاسة الحكومة.
هذا لا يعني أن السلوك الفلسطيني المستجيب لمساعي الوفد الأمني المصري، بالتهدئة وضبط النفس، يمكن أن يُفهم على أنه اختيار لطرف، على حساب طرف آخر، ذلك أن الكل يعرف بأن التنافس في الانتخابات يجري بين أطراف اليمين المتطرف جداً واليمين الأقل تطرفاً.
هكذا تكون الفصائل ومسيرات العودة عالقة بين الخيارات الصعبة، وبرأينا بدون آمال حقيقية في إمكانية تحقيق أي إنجاز ذي قيمة فيما يتصل بهدف كسر الحصار، وأن على هذه الفصائل أن تتابع إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية حتى تتبين طريقها اللاحق.