على مقهى فى أحد الميادين الرئيسية بعاصمة عربية، بادرتنى فتاة فى العشرينيات، خجولة، محجبة، اقتربت فى أدب وسألتنى: ممكن آخذ من وقت حضرتك بضع دقائق يا أستاذ؟
تأملتها، ولمحت علامات البراءة والطيبة على وجهها وإن كانت علامات الحزن تسكن عينيها.
- تفضلى يا ابنتى، اجلسى.
سحبت مقعداً وجلست وطلبتُ لها كوباً من الشاى المنعنع، وسألتها: من أين؟
الفتاة: من سوريا يا سيدى.
أنا: وأين أهلك؟
الفتاة: فى معسكر اللجوء على الحدود اللبنانية.
أنا: كيف أخدمك يا عزيزتى؟
الفتاة (فى كبرياء): أنا لا أريد شيئاً، أنا فقط عندى عدة أسئلة لك.
أنا: تفضلى، أنا تحت أمرك.
الفتاة: هل شاهدت ذلك الاحتفال المنحط بإقرار ترامب بأحقية إسرائيل فى ضم مرتفعات «الجولان المحتلة».
أنا: شىء مؤلم ومخيف وغبى.
الفتاة: «الجولان» تحديداً لا خلاف على أنها أرض تم ضمها بالقوة المسلحة.
أنا: والقانون الدولى يمنع ضم أى أرض تم الاستيلاء عليها عبر الحرب، لذلك كل قرارات الأمم المتحدة منذ 51 عاماً ترفض الاحتلال، وترفض قرار الكنيست الإسرائيلى منذ 28 عاماً بضمها من طرف واحد.
الفتاة: ولكن بالله عليك يا سيدى بأى حق يعطى ترامب لنفسه سلطة منح أرض الغير للغير؟
أنا: شىء مذهل...
الفتاة (مقاطعة): إننى أسأل هل يمكن لترامب، وهو مقاول بناء شهير، أن يمنح أو يتنازل عن قطعة عقار لا يملك ملكيته إلى أى طرف آخر.
أنا: الصراحة عندك حق.
الفتاة: ثم ماذا بعد؟ ماذا سيفعل العالم العربى؟ ماذا سيفعل العالم؟ ماذا سنفعل نحن؟ ماذا سيفعل الجيش السورى؟
أنا: لا أعرف بالضبط يا ابنتى، لكننى أعتقد أن الوضع العربى والعالمى ليس لصالحنا، وأن هذا هو زمن الاستضعاف الأعظم فى التاريخ الحديث.
الفتاة: ماذا تعنى؟
أنا: هذا زمن يفرض فيه القوى شروطه، إنه ما كان يسمى فى القرون الوسطى «سيادة المتغلب».
الفتاة: هم «المتغلب»؟ ونحن يا سيدى بماذا تصفنا؟
أنا: هم المتغلب ونحن المغلوب، والمتغلب مهما كان ظالما يفرض شروطه على المغلوب مهما كان مظلوماً.
الفتاة: يا ساتر يا رب.
أنا: هذا -وللأسف الشديد- قانون اللعبة.
الفتاة: إنه وضع يدعو لليأس، واليأس يدعو للجنون، والجنون يدعو -أحياناً- للانتحار.
أنا: ماذا تقصدين؟
الفتاة: إنهم يدفعون فتاة مثلى إلى أن تصل إلى كراهية كل شىء إلى الحد الذى يمكن أن تقبل فيه أن ترتدى حزاماً ناسفاً.
أنا: لا. لا. أعوذ بالله. قتل النفس حرام، ثم ما ذنب الغير؟
الفتاة (وهى تهم بالانصراف): اليأس يدفع إلى الجنون، وحماقة ترامب تدفعنا إلى قمة اليأس! بالأمس القدس والآن الجولان! أى مدينة عربية أخرى سوف يتنازل عنها لإسرائيل!
وغادرت وانتهى الحوار، بعدما تركتنى وفى فمى حلاوة الشاى بالنعناع ومرارة اليأس.
