كان الناس في الجليل والنقب، هم الذين أطلقوا الصراخة التي لم نتردد في جعل يومها وذكراها، موعداً سنوياً لتجديد العزم على التشبث بالأرض، من حيث كونها وطناً لن يُمحى اسمه، ولن تندثر أحلام وطموحات أهله، ولن يستقر الغزاة فيه، ولن تضيع حقوق أصحابه، وفي طليعتها الحق في الحرية والاستقلال والكرامة.
من مواضع الجُرح القديم، في الجليل والنقب، صدرت الصخرة، أو تجددت بزخمٍ أقوى، شفقيّة وشفيفة، معمّدة بدم الأحرار الذين هبوا للذود عن أرض ظل يحرسها الآباء والأجداد، كابراً عن كابر. فمن هناك أهديت الصرخة الينا جميعاً، في وطننا وشتاتنا، لكي نحفظ سرّ هذا العشق السرمدي، كلما توغلت في أوقاتنا أزمنة الموتى واليائسين. فقد تألقت الفكرة وانتظمت المناسبة، وتعيّن علينا ألا نخلف ميعاداً مع الأرض في نهاية كل آذار، على طول المدى!
نمتد في الأرض، وتنتشر الأرض فينا، ويستذكر الماكثون في فلسطين، أعزاءهم من الراحلين والأخيار والمناضلين الذين قضوا على درب الحرية، ويُستعاد في ذهن كل غائب قسراً أو طوعاً، ثمرُ الزيتونة التي آنسته، ورائحة الأزهار والفراشات الربيعية، وهيبة أشجار الصبّار وحلاوة قطافها، وحميمية المواقد في أماسي الشتاء وانتعاش الروح صيفاً، بنسائم الجبل أو بمياه البحر على الشواطيء الهادئة. فلا علاقة للغائب مع الأرض بغير الذاكرة، ثم أن الوطن، ليس أرضاً وحسب، إنه الأرض والحق معاً!
لا يختلف اثنان، على أننا نمر بسنوات مُضنية، محشورين بين مطرقة المحتلين الظلاميين، وسندان الجهالة والضلال المستبد والشقاء الكامل. إن هذا هو الذي أراده لنا المحتلون، وساعدتهم عليه غطرسة الوضيع وسفاهات الواهم. لكن يوم الأرض، يظل بياناً وجدانياً لإعلان الرهان على قوة الهوية. فالفلسطيني بطبيعته، مسكون بأمل يشبه الألم، لا يريد أن يُشفى منه!
كأنما مواقف التضحية الشبابية، التي تبدأ في كل مرة، بشجاعة أسطورية، هي استجابة بالسليقة، لنداء بيان الأرض والحق والهوية والكرامة. فما فعله الفتى الشهيد عمر أبو ليلى ــ كمثال ــ يؤكد على أن الأرض نفسها تنتج الإنسان الذي يألم معها ويحنو عليها وتستثيره مشاهد السطو عليها. ففي كل فترة، نُفاجأ بصور جديدة وباهرة، لافتداء الأرض، عندما لا تكون خَبَتْ في قلوبنا إنفعالات الصور والأمثلة السابقة. ومن ذا الذي يمكن أن يتلو الأسماء أو يروي كل ما رآه على مر اللقطات؟!
سيظل الإنسان، عاشق الأرض، يقاوم ويلازمه إحساس تلقائي، بأن حبه الأسمى، ليس إلا طقساً حضارياً، ولن يحبط تمسكه بما أحب، قوس الهزائم من حولنا.
لعل من حُسن طبائع فلسطين، أن أرضها ظلت على مر السنين، قاعدة الخطاب اليومي لأهلها، وخطاب الثقافة، وموضوع الشجن الدائم. وهذا ما جعل الأدب الفلسطيني، في الشعر والرواية، يركز على معاني الأرض ودلالاتها الرمزية، بل وتأثيرها على اللغة المحكية، وهذه ميزة استثنائية قلما نجدها في ثقافة شعب آخر. كأنما العلاقة بين الفلسطيني وأرض بلادة، تمثل تجربة غرام بديهية، يعيش ويموت فيها الإنسان مع إحساس عميق بأن هناك فصلاً أو جزءاً مؤجلاً، ينتظر اكتماله، لكن الحياة تنتهي دون أن يكتمل!
تحية للقابضين في الزمن الصعب، على معاني الأرض والهوية والكرامة والغضب المقدس!
