ربيع عربي جديد أم ماذا؟

عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

عبد المجيد سويلم

كثيرون منّا اعتقدوا أن ما اصطلح عليه بالربيع العربي لن تعود إليه الحياة مرة أخرى، بعد الكوارث التي حلّت بالمنطقة جراء هذا الربيع، وبعد أن حدث تدمير كبير في بلدان عربية كثيرة، وبعد أن دفع معظم بلدان الإقليم العربي من لحمها الحيّ ما يفوق أي مكاسب ديمقراطية وتحررية كانت في صلب مطالبات وتطلعات الجماهير التي اندفعت وانخرطت في معمعانه.
النادمون اليوم أكثر من المتحمّسين والمستنكفين. والمشردون واللاجئون بالملايين.
مدن بكاملها لم يتبق منها غير الاسم والتاريخ.
العنف الذي تولّد في سياق هذا الربيع تحول إلى التوحش، والاختلاف والتنوع تحوصل في تعصب وتطرف، والعداء وصل إلى حدود الإبادة والتصفية.
أما الطائفية والمذهبية وعصبيات القرون الوسطى فقد «انتعشت» بصورة مذهلة، وانبلج منها أحطّ أساليب الإقصاء والرفض والكراهية.
وكانت الحريات الأساسية ولقمة العيش الكريم هي الضحية الأولى لهذا الربيع.
مع ذلك هناك صورة مقابلة.
فقد خرجت الجموع وكسرت حاجز الخوف، وتحدّت الطغيان والفساد والاستبداد، وطالبت في مواجهة بطولية بحقها في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية والوطنية.
وفي مراحل معينة من الهبات الشعبية العارمة كانت الجماهير تعرف معادلة الموازنة بين زوال نظام الحكم وأساليبه وأدواته، وبين بقاء الدولة الوطنية والحفاظ على وحدتها ووحدة المجتمع وتماسك النسيج الاجتماعي والوطني فيها.
كيف للمرء أن يُطمأن إلى صورةٍ دون الأخرى؟
وكيف له أن يحل لغز هذه المعادلة التي بدت متناقضة إلى أبعد حدود التناقض؟
في هذا الإطار، إطار الاطمئنان إلى صوره، وإطار الحيرة في لغز المعادلة، وفي المساحة الفاصلة بينهما طرحت عشرات الأسئلة المشروعة.
هل ظاهرة الربيع العربي مؤامرة أم فعل شعبي أصيل؟
وهل تحولت عند درجة معينة من تطوراتها إلى مؤامرة (من الناحية العملية) أم فقدت مصداقيتها في سياق هذه التطورات بالذات؟
هل كانت مسبقة الصنع والإعداد من قبل الغرب، أم أن الغرب عرف كيف يدجنها ويجهضها خوفاً من وصولها إلى تهديد مصالحه وأيديولوجيته وأدواته المحلية؟ وهل كانت فعلاً عفوية أم أنها أصبحت بعد امتدادها واتساع نطاقها إلى ظاهرة مراقبة وموجهة؟
أم أنها كظاهرة كانت تحمل شروط انحرافها لأسباب في شروط نشأتها التاريخية النابعة من موروثات سياسية وثقافية واجتماعية خاصة؟
حول كل هذه الأسئلة كتب مئات آلاف الصفحات في العالم، وفي العالم العربي على وجه الخصوص.
ومع ذلك لا يوجد (كما أرى) حتى يومنا هذا ما يشكل رؤية يقينية لفهم أبعاد ومدلولات هذه الظاهرة. 
اليوم يحتار خبراء وعلماء علم الاجتماع السياسي في بلورة المقاربة العلمية لهذه الظاهرة.
أغلب الظن هنا أن الذي يفسّر النجاح والإخفاق في مسار التحول الديمقراطي منذ نهايات العصر الوسيط وحتى أيامنا هذه هو وجود العامل الاجتماعي المؤهل سياسياً والمتوافق تاريخياً في مسار تطور المجتمعات البشرية.
وأغلب الظن أننا سنحتاج إلى هذا المفهوم المفتاحي لكي نفهم ظاهرة الربيع العربي.
أقصد أن الشروط التاريخية الخاصة بالمجتمعات العربية وموروثاتها هو الأسلوب المنهجي الأنجع لإدراك أبعاد الظاهرة. ما يجري اليوم في الجزائر والسودان هو الذي أعاد النقاش وأثار الفضول الفكري من جديد.
أتكون الهبات الجماهيرية التي تحدث وتتواصل في هذين البلدين موجة جديدة ومتجددة للربيع العربي أم أنها (الهبّات) ظاهرة جديدة تختلف من حيث الجوهر والمضمون، ومن حيث شروطها الخاصة عن كامل مسار ذلك الربيع؟
لا أحد يستطيع تقديم إجابة شافية على هذا السؤال. لكن ثمة حقائق من شأنها أن تساعدنا على الفهم. أولى هذه الحقائق هو موقف الجيش والأمن من هذه الهبّات.
وهنا لدينا ما يكفي من الأدلة أن موقف الجيش كان حاسماً سواء في درء الحروب الأهلية أو المساهمة المباشرة في إشعالها، وفي نجاحات جزئية أو كلية، وفي إجهاض الهبّات أو إخمادها.
والاستعراض المنصف لهذه التجربة في اليمن وتونس ومصر وليبيا وسورية وحتى العراق يوصل إلى أهمية هذا الدور. وثاني هذه الحقائق هو موقف وموقع منظمات الإسلام السياسي في تلك الهبّات.
هنا يمكن الجزم بأن ركوب الإسلام السياسي لظاهرة الربيع العربي كان سبباً مباشراً في ما رافق الظاهرة من كوارث وإساءات وتحولات نحو العنف والطائفية وحتى التوحش. وثالث هذه الحقائق هو درجة تدخل العوامل الخارجية، ودرجة استجابة هذه الهبّات لتلك التدخلات، وخصوصاً رهانات الغرب على الأدوات القديمة للأنظمة وعلى منظمات الإسلام السياسي كأداة رئيسية انخرطت بوعي وأحياناً دون وعي في مخططات الخارج وأهدافه وتطلعاته.
ولهذا كله فإن درجة فعل وتأثير هذه العوامل هو الذي سيحدد نجاح أو إخفاق التحولات الجارية في الجزائر والسودان ليس فقط كعوامل منفردة، وإنما في تضافرها وفي تكاملية ما يمكن أن تحدثه من تحولات.
يمكن القول إن ما يجري في الجزائر والسودان هي موجات جديدة ومتجددة لظاهرة الربيع العربي في ظروف جديدة تراجعت من خلالها شروط تأثير تلك الحقائق الثلاث.
ويمكن القول إن هذا التراجع بالذات يمكننا من الحكم على ما يجري في هذين البلدين وكأنه طور جديد من التحولات الديمقراطية في الإقليم العربي، الذي لم يعد يحتمل المزيد من الانتظار.
فواتير النظام العربي تتضخم كل يوم، والناس لم يعودوا قادرين على التحمُّل.
فمن فهم فقد سلم، ومن لم يفهم لن يسلم، خصوصاً وأن فاتورة فلسطين أصبحت على الأبواب.