غزة في دائرة جهنمية ومُغلقة..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

تقول الأخبار، صباح أمس الاثنين، إن الجولة الأخيرة انتهت، وأُعلن وقف لإطلاق النار. 
وفي الأخبار قول حماس إنها لا تريد حرباً جديدة، ولكن إذا لم ترفع إسرائيل الحصار فالجولة القادمة مسألة وقت، والجيش الإسرائيلي يُعلن تخفيف الإجراءات الأمنية في محيط قطاع غزة. 
وعلى مقلب آخر، بولندا تدين إطلاق صواريخ على إسرائيل، ونتنياهو يقول إن المعركة لم تنته. ومع هذا كله، قَتلَ قرابة سبعمائة صاروخ، أطلقت من غزة، أربعة إسرائيليين، وقصف الإسرائيليون 320 هدفاً في غزة، وقتلوا 25 ما بين رجال ونساء وأطفال وأجنة في بطون الأمهات، ودمروا 18 بناية سكنية.
يمكن الاستطراد في سرد كهذا إلى ما لا نهاية، تقريباً، ولكن خبراً إضافياً هنا أو هناك، أو نقصان خبر هنا أو هناك، لن يغيّر كثيراً من ملامح المشهد السوريالي، ولن يحول دون العودة إلى السؤال الأصلي: إلى متى، وما معنى وجدوى هذا كله؟
معنى وجدوى هذا كله أن الحرب على نار خفيفة، منذ استيلاء حماس على غزة، مطلوبة ومرغوبة، في نظر نتنياهو وشركاه وناخبيه، لأنها تخدم هدفاً استراتيجياً في مكان آخر، والثمن الذي يدفعونه مُحتمل. 
ومعنى وجدوى هذا كله أن الحرب على نار خفيفة مطلوبة ومرغوبة، في نظر حماس وحلفائها ومموليها، لأنها مصدر الشرعية، وديمومة الحكم. 
ولكن، وما محل قرابة مليونين من الآباء والأمهات والشباب والشابات والأطفال والرضّع من الإعراب، في حرب مطلوبة ومرغوبة على نار خفيفة، تبرد وتسخن، تسخن، وتبرد، في دائرة جهنمية ومغلقة؟ لا وجود في لغة الأرقام للرعب تحت القصف، ولا لصراخ وذعر الأمهات، ومهانة اليتم، ونحيب الثكالى، وعبثية الموت بالصدفة، فالقذيفة قد تسقط عليك، وقد لا تسقط، والبيت قد ينهار على العائلة وقد لا ينهار، ربما يعيش الأولاد والبنات حتى صباح الغد، وربما يسلبهم الحديد المصهور من الحق في صباح جديد. احتمالان متساويان، وكلاهما رهين الصدفة، ولعبة الحظ. 
لا تتجلى الدلالة الأبعد للدائرة الجهنمية المُغلقة في كونها جهنمية ومُغلقة، بل في قابلية ما يسكنها من رعب، ويوشحها من دم، للتطبيع في مشارق الأرض ومغاربها إلى حد يجعل من تسخينها وتبريدها، وتبريدها وتسخينها، في غزة، كما في كل مكان آخر، جزءاً من المعروف والمألوف، الذي يمكن التعايش معه، وغض النظر عنه. فتبلّد العاطفة، وبلادة الضمير، لا تحدث مرّة واحدة بل على دفعات.
لذا، ما الذي سيخسره البولنديون إذا أغمضوا عيناً على قصف المدنيين في غزة، وفتحوا عيناً على سقوط الصواريخ على مدنيين في إسرائيل؟ وما الذي سيحدث في العالم لو كانت الأهداف التي قصفها الإسرائيليون في الجولة الأخيرة ثلاثة آلاف لا ثلاثمائة، وكان عدد القتلى مائتين وخمسين، أو ألفين وخمسمائة، لا خمسة وعشرين؟
فلنمسك الثور من قرنيه: بعد قتل ثلاثة آلاف شخص في برجي التجارة العالمية في نيويورك، وقتل وجرح مئات الآلاف، وربما الملايين، في الحرب الأميركية على أفغانستان والعراق، وبعد داعش وتدمير المتاحف، وحرق المكتبات، والذبح وفرض الجزية والتطهير العرقي والديني وأسواق الجواري، وبعد قصف المدنيين في سورية بالبراميل المتفجرّة والطائرات والصواريخ، وبعد هدم الموصل على رأس غزاتها الدواعش ومواطنيها الأبرياء، وبعد ليبيا، وسيناء، وسريلانكا، والانتحاريين في عواصم أوروبية مختلفة، لا مفر من القول إن المجزرة هي السمة الأساسية للعقود الأولى في قرن وألفية جديدين.
لم يسبق للعالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن كان مأزوماً إلى هذا الحد، وعلى هذا القدر من البشاعة. 
ولنحتفظ في الذهن بحقيقة أن أزمته وبشاعته من أزمة وبشاعة الرأسمالية العالمية، التي توحّشت الآن، بعد انهيار نظام المعسكرين، واستفرادها بالعالم، والرهان على هندسة الأسواق، والمصائر، والخرائط، في عالم تجرّد من القيم، وتبلّدت إنسانيته، وكسدت فيه بضاعة حقوق الإنسان، ومبرات ودوافع حماية المدنيين في أزمنة الحرب.
الربح هو القيمة الأعلى، في عالم اليوم، ولكن لم يعد من الممكن تحقيقه في ظل أزمات بنيوية تعصف بالرأسمالية من وقت إلى آخر، وآخرها قبل ما يزيد على عقد من الزمن بقليل، بلا قوّة سافرة وغاشمة، وحتى بلا عودة إلى سياسة الغزو الاستعمارية في القرن التاسع عشر. 
وفي عالم كهذا ثمة الكثير من القضايا، والجماعات القومية، والشرائح الاجتماعية الفائضة عن الحاجة، في مشارق الأرض ومغاربها، التي ينبغي سحقها، أو ترويضها، وفرض الحجر عليها. وفي هذه المساحة، بالتحديد، يلعب نتنياهوات كثيرون. 
فالحرب على نار خفيفة تبرد ثم تسخن، وتسخن ثم تبرد، في غزة، لم تُفرض على الإسرائيليين، بل كانت أفضل خياراتهم لتقويض فكرة الانسحاب من الضفة الغربية، وحل الدولتين، وابتلاع الضفة الغربية في وقت لاحق. 
فهل ثمة أفضل من تحويل غزة الإخوانية الجهادية، التي تقصف المدنيين الإسرائيليين، إلى وسيلة إيضاح لكل ذي عينين، في العالم، ليرى ماذا يفعل الفلسطينيون إذا أفلتوا من قبضة إسرائيل الأمنية، ولماذا تحتاج لقتلهم من وقت إلى آخر. 
يعرف نتنياهو، وشركاه، أن العالم لا يحب الإسلاميين والجهاديين، ولا يتعاطف مع قضاياهم. وبقدر ما أرى فإن المخرج الوحيد لمليونين من البشر، والمفيد للفلسطينيين، شعباً وقضية، يتمثل في تخلي حماس وتسليم غزة للسلطة الفلسطينية. 
ولكن، هيهات. وفي هيهات هذه ما يُضفي على مشهد الدائرة الجهنمية المُغلقة دلالة تراجيديا إغريقية، ووقائع موت مجاني مُعلن، إلا إذا أشبعنا الإسرائيليين والعالم شتماً، وتناسينا، أو نسينا، مَنْ فاز بالإبل. وهنا، أيضاً، دلالة سوريالية فارقة في دائرة جهنمية ومُغلقة.