المستقبل الافضل يستحق كل هذه التضحيات

التقاط.PNG
حجم الخط

بقلم : طلال سلمان

 

هل جاء زمن إعادة النظر في خريطة الوطن العربي، بدولها الغنية المرتهنة للأجنبي، لا فرق بين أن يكون اميركيا او اسرائيليا، او تابعاً مطيعاً لهما معاً، وإن هو غطى رأسه بكوفية مرقطة وعقال مذهب او بقبعة الجنرال؟

إن الوطن العربي بأقطاره كافة يتعرض لاضطراب عنيف يتهدد دوله، تستوي تلك التي لها جذور في التاريخ، مصر، سوريا، العراق، المغرب، الجزائر، اليمن والسودان، او تلك الحديثة كدولة الامارات العربية المتحدة وقطر.

بالمقابل. فإن دولة طارئة على المنطقة ومستقوية بالدعم الخارجي المفتوح والضعف ومعه الانقسام عربيا، هي الكيان الاسرائيلي تعتز ب"ابتلاع" فلسطين كاملة، ضمن "صفقة القرن" التي "يبشر" بها الرئيس الاميركي دونالد ترامب ومعه رئيس حكومة العدو الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويهلل لها بعض العباقرة من الحكام العرب و"المحللين" فيقولون ما لا يجوز القول به، بل ومن الخيانة الترويج له.

على أن الامة العربية التي ترفض الموت تندفع الآن، مرة أخرى، نحو تغيير هذا الواقع الرديء والذي يسحبها إلى الخلف، إلى خارج التاريخ، مؤكدة أن اجيالها الجديدة التي استولدها ثوار التحرير قادرة على حماية الانجاز التاريخي والتقدم نحو الغد الافضل.

واذا كانت بعض اقطار المشرق تعاني من آثار الردة ومخلفات الدكتاتورية والنفخ في رماد الفتنة لإيقاظها وطمس الهوية القومية بالطائفية والمذهبية والعنصرية، فان اقطار المغرب العربي ومعها السودان، تستعيد روحها بالثورة، بدءاً بتونس البوعزيزي، وصولاً إلى جزائر المليون شهيد وصولاً إلى سودان الخير، وتباشر اسقاط الدكتاتورية فاتحة الباب امام فجر الحرية والعزة وكرامة الانسان بالثورة السلمية معززة بالوعي الثوري ورفض المساومة على التغيير وحقها في أن تكون بلادها لها، وفي أن تبني فيها وبطاقاتها وزخم الشباب الغد الافضل الذي تستحق.

-2-

إن شعبي الجزائر والسودان في شوارع العاصمتين والمدن الأخرى في الاقاليم، يرفضون المساومة التي يعرضها عليهم العسكر، لتقاسم السلطة، ويتخوفون أكثر ما يتخوفون من تدخل الذهب العربي الفاسد المفسد لحرف الثورة عن مسارها والتسليم بمساومة تقضي بتقاسم السلطة بين الثوار والعسكر مقابل رشوة مذهبة لتحويل الثورة إلى انقلاب والانقلاب إلى مجرد تغيير في الاشخاص والتآمر على الميدان لإفراغه من جماهيره.

ولقد خبر الشعبان العربيان في كل من الجزائر والسودان حكم العسكر وتواطؤ الانظمة المذهبة مع أي دكتاتورية تخرج البلاد من هويتها ومن دورها القومي ومن حق شعبها في القرار، أي قرار وكل قرار يتصل بمصلحة البلاد وحقها في التقدم والاستقلال ولعب دورها على المستوى القومي (بعنوان فلسطين) والدولي، واسقاط "صفقة القرن" التي يبشر بها الرئيس الاميركي ترامب لتصفية القضية الفلسطينية وإعادة السيطرة على مقدرات الامة جميعا، وطمس حقوقها في تقرير مصيرها وحماية هويتها العربية التي دفعت ثمنها بالأحمر القاني.

لندخل في التفاصيل:

فجأة تنبهت بعض دول النفط والغاز العربية إلى "علاقات الاخوة"، التي لا تعني هنا الا "المصالح" مع كل من السودان (الفقير) خصوصا، قبل الجزائر وبعدها..

وهكذا طار الرسل بالكوفية والعقال يحملون إلى السودان "ثمن الثورة" بمليارات الدولارات نقداً..

وكان بديهيا أن يستغرب السودانيون هذا الكرم الطارئ وان يستريبوا بأهدافه، وان يخافوا بالتالي على انتفاضتهم الشعبية الرائعة وصمود جماهيرها في الشارع طيلة شهر وأكثر، ترفض المساومة وتصر على اسقاط النظام بجميع رموزه واعادة السلطة إلى صاحبها الشرعي: الشعب.

كذلك تحركت انظمة عربية أخرى، مدنية الواجهة، عسكرية في مركز القرار، لتبذل وساطتها الحميدة بين العسكر الذي يحاولون وراثة النظام بعد قطع رأسه وابقاء مؤسساته، وبين الجماهير الثائرة التي امضت – حتى اليوم- خمسة اسابيع في الشارع، على مدار الساعة، تأكيداً على اصرارها وتمسكها بمطالبها وأولها وأخطرها: عودة السلطة إلى الشعب، واعادة بناء "الحكم الديمقراطي"، سلميا، مع تجنب المواجهة مع "ابنائنا في الجيش".

-3-

فالثورة، بمنطق الانظمة الدكتاتورية، يمكن أن تنتقل، من بلد إلى أخر، بالعدوى، خصوصاً في ظل تشابه الظروف في العديد من البلاد العربية، بين من هم تحت، أي الغالبية المطلقة من الشعب، وبين هم فوق، أي الاقلية الحاكمة، وغالباً ما تكون عسكرية.

ويشهد "التاريخ المعاصر لهذين الشعبين يتحمل الكثير من الظلم وعنت السلطة.. وشهيرة هي التظاهرات العارمة التي استقبل بها شعب المليون شهيد في الجزائر، رئيس دولة المستعمر الفرنسي السابق، التي انكرت على الجزائريين هويتهم الوطنية، واعتبرهم – بقوة الامير الواقع- فرنسيين ( من الدرجة الثانية، طبعاً)، كان يهتفون: فيزا، فيزا!

في تلك التظاهرات العارمة، قبل حوالي 15 سنة، كان هتاف الجزائريين جارحا لكرامتهم، ولكن "الجوع كافر"..فقد كانوا يهتفون امام جاك شيراك، وريث الاستعمار الفرنسي.

بالمقابل فان شعب السودان الطيب يعاني من العوز والحاجة، ويغادر شبابه المؤهل والمستعد لان يعمل بطاقته الكاملة، إلى اقطار الجزيرة والخليج ليبيع عرق جباهه لمن يدفع له اجراً مقبولا يقيه شر الحاجة... مع أن بلاده الواسعة بل الشاسعة لا تجد من يزرعها لان الزراعة لا تدر ما يكفي.. خصوصاً وان بعض دول النفط قد وضعت يدها، بالإيجار او بالاستثمار، على مساحات واسعة، لتعويض النقص في انتاج صحاريها، من القمح والحبوب اجمالاً، فضلاً عن قطعان من الماشية (بقر وغنم) يلتهمونها مع ضيوفهم، عرباً واغرابا، تدليلاً على كرمهم... بينما منتجو هذه القطعان يعانون من الفاقة ويتغذون بما تيسر.. ثم يحمدون الله على كرمه.

وغني عن البيان كم ضحى شعبا الجزائر والسودان من اجل الحرية والاستقلال، ثم من اجل حكم وطني يوفر لشعبه احتياجاته الطبيعية واهمها الغذاء الصحي والتعليم وفرص العمل التي تؤمن له دخلاً كافيا يقيه شر الحاجة وتربية عياله بكرامة.

*****

لم يستطع اهل الذهب الاسود، أو الابيض، أن يشتروا هاتين الانتفاضتين المبشرتين بالغد الافضل لشعبين عربيين بذلوا الدم، كثيراً من الدم، والعرق، من أجل تأمين الغد الافضل لأجيالهم الجديدة.

لقد اغتيلت الثورة الجزائرية المجيدة، بالحكم العسكري الذي اقفل الباب امام الغد الافضل لشعب المليون شهيد من اجل الحق في استعادة الهوية الوطنية والقرار بشأن حياتهم ومستقبلهم الافضل الذي سقوه دماءهم..

-4-

كذلك فان شعب السودان الذي عرف الحياة السياسية بصخبها واحزابها المتعددة والتي قدمت نموذجا فذاً للديمقراطية وقبول الكل بالكل، قبل أن يتقدم العسكر لإفساد تلك الحياة، وحل الاحزاب (التي استمرت قوية ومؤثرة)، كما تشهد تظاهرات الشهر الماضي، والتي يتجاور فيها الشيوعيون وحزب الامة وسائر القوة المنظمة والنقابات العمالية بتاريخها العريق..

ونادرة في التاريخ السابقة التي أقدم عليها العقيد سوار الذهب الذي تولى السلطة، ذات يوم، في السودان، نتيجة إقدام الجيش على "خلع حكم فاسد": فبعد أن اطمأن سوار الذهب إلى استقرار الاوضاع وعودة الحياة الطبيعية إلى البلاد، أعلن استقالته من الرئاسة وسط ذهول السودانيين، بل العالم اجمع، من هذه المبادرة الشجاعة يقدم عليها من سجل السودانيون اسمه في تاريخهم المذهب.

*****

إن هذه الامة العريقة تستحق من يرتفع بها إلى حيث تؤهلها تضحيات اهلها وكفاءات شبابها: انها تستحق مستقبلاً أفضل.

ولسوف يستمر نضال جماهير هذه الامة حتى تحقيق ما تستحق.

ينشر بالتزامن مع جريدة"الشروق" المصرية