هل ينجح ترهيب ما قبل الصفقة؟

مهند عبد الحميد.jpg
حجم الخط

مهند عبد الحميد

شهدت الأيام الماضية حربا نفسية، شنها مهندسو صفقة القرن، بصيغة تهديد ووعيد،  جرى ترويجه من خلال بنود الصفقة. التهديد استهدف المنظمة والسلطة وحركتي حماس والجهاد الإسلامي ومختلف التنظيمات. وسيجد من يدقق في البنود المسربة، وبصرف النظر عن صحة او عدم صحة البنود، فإن الهدف المتوخى من التسريب هو تخويف وإرباك الكل الفلسطيني ما قبل إعلان الصفقة. تتحدث البنود عن إغراءات اقتصادية بعشرات المليارات التي سيدفع 80% من قيمتها دول عربية والباقي ستشارك بدفعه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مقابل تمرير الصفقة التي ستحافظ على سيادة إسرائيل على ما يتبقى من أراض فلسطينية، بعد ضم جميع المستعمرات والأراضي المقامة عليها والمناطق الاستراتيجية التي تبلغ مساحتها 60% من أراضي الضفة الغربية لدولة الاحتلال، وبعد ضم القدس، وشطب اللاجئين بالكامل. بهذا المعنى إدارة ترامب تقايض وطنا وتقرير مصير وتحررا بوعود مالية من جيب العرب، وهو ما لم يحدث في تاريخ العلاقة بين الدول الاستعمارية والشعوب المستعمَرة. بل ان إدارة ترامب  تحول المسألة الفلسطينية برمتها الى صفقة تجارية يقررها ويفرضها المستعمِر بما ينسجم مع مصالحه، مخضعا نصف الشعب الفلسطيني داخل وطنه الى علاقة أسياد وعبيد في إطار نظام «الابرتهايد» الاستعماري الإسرائيلي، ومثبتا انفصال النصف الآخر (الشتات) عن وطنه الأصلي محملا أعباء فصله على البلدان المضيفة وبخاصة الأردن.
واللافت في بنود الصفقة المسربة هو الدمج بين ما تعتقد إدارة ترامب انه إغراءات اقتصادية ومعيشية، بالعقاب الشديد، من نوع الخنق الاقتصادي بوقف كل الدعم عن الشعب الفلسطيني وبممارسة الضغوط على كل الدول العربية والأجنبية لوقف دعمها بغية تدفيع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا لرفض الصفقة. وفي الجهة الأخرى هناك تهديد عنيف بتصفية التنظيمات المسلحة في حالة معارضتها للصفقة. 
كما نرى فإن إدارة ترامب باعتمادها سياسة الترهيب والعقاب والإغراء المعيشي الكاذب، تحاول زعزعة الموقف الفلسطيني الرسمي والشعبي، المعتدل والمتشدد، السلطة والمعارضة، وتحاول البحث عن بدائل فلسطينية تتساوق مع الصفقة المدمرة للحقوق الوطنية والمدنية الفلسطينية. ما تفعله وتحضر الى فعله إدارة إدارة ترامب يقذف بكل أنواع التحدي أمام الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وأطيافه السياسية والثقافية. ويستدعي وضع سياسات اعتراض للصفقة، سياسات صمود وتماسك سياسي والاهم التماسك المعنوي في مواجهة الحرب النفسية التي تشن بأشكال مختلفة والتي تستهدف تفكيك كل تماسك فلسطيني قائم ومحتمل وزعزعة ثقة الشعب الفلسطيني وقواه السياسية بقدرته على الصمود وعلى إفشال صفقة ترامب من خلال عدم توفير أي غطاء فلسطيني بشكل مباشر او غير مباشر. ان سياسة التماسك والصمود المطلوبة لا بد ان تستند الى  
أولا: صفقة ترامب وسياساته متناقضة ومتنافرة مع القانون والشرعية الدوليين، ومع الموقف الدولي الرسمي المدعم بمئات القرارات حول حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهذا يفقد إدارة ترامب غطاء دوليا لصفقته، حيث لا يمكن للأكثرية الساحقة من الدول تشكيل غطاء سياسي لتصفية القضية الفلسطينية، قد لا تبادر تلك الدول الى وضع سياسة بديلة وآلية لتنفيذ المواقف الدولية من القضية الفلسطينية، لكنها لا تقبل او من المنطقي ألا تقبل تشكيل غطاء سياسي للصفقة، ومن المنطقي ألا تنصاع لسياسة ترامب في معاقبة وخنق الشعب الفلسطيني بوقف كل أشكال الدعم. الموقف الدولي بحده الأدنى الرافض للصفقة يمكن الاستقواء به فلسطينيا والمطالبة بتطويره. 
ثانيا: التمسك بالمشروع الوطني اكثر من أي وقت مضى بعناوينه الرئيسية (التحرر من الاحتلال الاستعماري، وحقوق اللاجئين المشروعة الثابتة غير القابلة للتصرف، وتقرير المصير بإقامة الدولة المستقلة، وحق المساواة للشعب الفلسطيني في مناطق الـ 48)، إن السعي الإسرائيلي المحموم لتدمير مقومات المشروع الوطني وتحويل أهدافه الى أهداف غير قابلة للتحقيق لا يعني التراجع عنه وتجريب خيارات أخرى والدخول في حالة فقدان الاتجاه. فإذا كان هدف الاستعمار الاستيطاني تدمير مقومات الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران العام 1967، وقطع شوط كبير في تدميرها فعلا، فلا يعقل التراجع الفلسطيني عن هذا الهدف بدعوى انه غير قابل للتطبيق، وكأننا نسلم بالهدف الإسرائيلي المتمثل بإحباط إقامة الدولة الفلسطينية. الشيء نفسه ينطبق على قضية اللاجئين، فلا يعقل التراجع عن حق اللاجئين، والتعايش مع الرفض الإسرائيلي لذلك الحق بدعوى انه اصبح غير قابل للتنفيذ. إن أي انزلاق فلسطيني في متاهة وضع المشروع الوطني الفلسطيني تحت رحمة التقويض الإسرائيلي لعناصره  ومقوماته وجعله غير قابل للتنفيذ، يشكل ذروة الارتباك الذي يضعف من الوحدة والتماسك والصمود الفلسطيني. لا يعقل الانتقال من أهداف جعلتها إسرائيل غير قابلة للتطبيق كإقامة دولة فلسطينية، الى أهداف غير قابلة للتطبيق أكثر، كحل الدولة الواحدة على سبيل المثال.
ثالثا: خلافا لسياسة التكيف التي بدأت تظهر لدى أوساط ونخب سياسية فلسطينية، من مواقع متشددة ومن مواقع اكثر اعتدالا، ينبغي التوقف عند المشكلة الحقيقية التي عنوانها تدمير مقومات الدولة الفلسطينية، وتدمير مقومات حل قضية اللاجئين، وتعميق الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية، ومصادرة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وممارسة سياسة التمييز و»الابرتهايد» في فلسطين التاريخية. البديل عن التكيف وردود الفعل غير المحسوبة والارتباك الناجم عن شدة الهجمة الأميركية الإسرائيلية، هو وضع خطط وسياسات طارئة في المجالات المذكورة، والعمل على وقف الاندفاعة الإسرائيلية في عملية التحويل وفي شطب المشروع الوطني. بدءا بتغيير الخطاب السياسي والإعلامي، مرورا بإعادة النظر في الأولويات الفلسطينية، وانتهاء بتصليب الجبهة الداخلية الفلسطينية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، فضلا عن إعادة بناء التحالفات الخارجية مع الشعب الفلسطيني. ان المرحلة الراهنة في ظل الهجوم السياسي الاقتصادي الأميركي المحموم هي مرحلة صمود وليس تحقيق إنجازات ولا وضع المشروع الوطني للتطبيق. كيف نصمد سياسيا واقتصاديا أمام الضغوط والتدخلات،  وكيف نفشل صفقة ترامب ونعزلها فلسطينيا وعربيا ودوليا، وكيف نمنع أي اختراق للجبهة الفلسطينية ونقطع الطريق على أي تساوق فلسطيني مع الصفقة. ان كل نجاح فلسطيني في سياسة الصمود من شأنه ان يزيل العقبات التي تعترض المشروع الوطني. ويجوز القول ان نجاح ترامب والترامبية على صعيد كوني يعتمد على النجاح في تصفية القضية الفلسطينية عبر صفقة القرن. وبهذا المعنى فإن الشعب الفلسطيني ليس وحيدا، بل هناك مصلحة دولية ومصلحة شعوب العالم بأن تعترض الترامبية وتحول دون انتصارها في فلسطين توطئة لهزيمتها عالميا.