ثلاثة أسلحة فتّاكة قادمة

توفيق أبو شومر
حجم الخط

هاتفني صديقٌ يعيش في ليبيا وهو بلدٍ عربي من أكبر بلدان العالم إنتاجا للنفط، واعتذر صديقي عن تأخره في مكالمتي، فهو يُحسُّ بالقهر والإحباط، والسبب يعود إلى انقطاع التيار الكهربي، أكثر من عشر ساعات كاملة، في بلاد النفط!! قلتُ له: لقد نجحت التجارب!!  فقال: وما هذه التجارب؟ قلت: خضعتْ غزةُ خلال تاريخها الطويل إلى تجاربَ عديدةٍ، تتراوح بين القتل، والقهر، والحصار والفقر، وبين الخنق، والسجن! وتمكن المحتلون من بلورة صيغٍ عديدة لإنتاج القهر، وزراعة الإحباط، واستنبات الصراعات، بوسائل غير حربية، بوسائل قهر حديثة، تؤدي الأغراض نفسها، التي يودُّ المحتلون تحقيقها، وليس من قبيل المبالغةِ القولُ: إن الأهداف المتحققة باستخدام تكنلوجيا القهر الجديدة، أسوأ من الهزائم الحربية، فالهزائم الحربية، تُنتجُ في كثير من الأحيان الرغبةَ في التحدي، لتحقيق النصر، أما النتائج المترتبة على استخدام السلاح الجديد، تكون أكثر خطورةً، لأنها تنشر فايروسات الإحباط والقهر، والرغبة في الهروب من الواقع، وصولا للإضرار حتى بالمجتمع وهدمه، وذلك بتحوُّل أفراد كثيرين إلى التجسُّس، يُضاف إلى ذلك، أنَّ صيغَ القهرِ الحديثة، هي بالتأكيد، أرخصُ وأسهل، ولا تحتاج إلى جيوش أو أسلحة، أو رصد ميزانياتٍ كبيرة! ومن أبرز أسلحة القهر والإحباط في عصرنا الراهن، تعليم البشر أنماطا من الإدمان، ثم حرمانهم منها فجأة، وهذا الحرمان يؤدي إلى انفصام، وأمراضٍ اجتماعية عديدة! وهم بهذه الوسيلة، يستطيعون نشر أمراض خطيرة في المجتمع، أمراضٍ مستعصية، لأنها تنتشر بين الناس بسهولة ويسر!  كثيرون يُظهرون الألمَ والأسى عند رؤيتهم أفرادا يُعذَّبون، ويُقتلون على يد الإرهابيين، كما حدثَ في قضايا القتل البشعة التي قامتْ بها المجموعات الإرهابية!! غير أن ما تقوم به دولٌ وحكوماتٌ وأحزابٌ عديدة، في ألفيتنا الثالثة من تكنلوجيا التعذيب للجماهير، لا يقِلُّ هولا، ولا بشاعةً، عما يقوم به هؤلاء الإرهابيون! فهناك وسائل تعذيب حديثة جرى تجريبُها، وثبتتْ نجاعتُها في تعذيب الأمم، وقهرها، وإحباطها، ومِن أبرز وسائل القهر في ألفيتنا الثالثة، دفع الناس إلى إدمان وسائل الترفيه، المعتمدة كليا على التيار الكهربي، من هواتف بمختلف أشكالها، إلى كمبيوترات، إلى مكيفات، وأدوات منزلية، وجعل المدمنين لا يتوقعون يوما ما، أن يقوم الحاكمُ، أو الطاغيةُ، أو المتآمر، بقطع هذا التيار الكهربي فجأة، وهنا يحدث الشرخُ النفسيُ، فبسرعة البرق يتولد الإحباط واليأس، ويُصبحُ الوطنُ كلُّهُ منفى، والمسؤولون أعداءَ!  ونتيجة لإيقاف أصناف الإدمان، تتوالدُ الشقاقات، والخلافات بين الأهل والأقارب، بفعل هذه الضائقة، ويصبحُ الوطنُ كله سجنا كبيرا! وقد جرَّب الإسرائيليون هذا الملف في قطاع غزة، فأثبتَ فاعليتَه، ولم يعُد المحتلون بحاجة إلى جيوشٍ من العملاء والمآجورين ليتولوا زعزعة الأمن، وإحداث الشقاق، وتفكيك الروابط الوطنية، فهم لا يحتاجون إلا إلى رموت كونترول، يتحكم في مفتاح التيار الكهربي، فهم قد عوَّدونا على أن يمنحونا الطاقةَ، ليس من باب الكرم، أو التجارة المربحة فقط، بل لوضع لجامٍ في رقابنا، لأن مفتاح الإدمان سيظل بأيديهم.  لم يكتفِ الإسرائيليون بذلك، بل شجعوا أكثر من نصف سكان قطاع غزة على أن يعتادوا تقليدا جديدا، وهو مجانية التيار الكهربي، وحتى وصله بلا اشتراكات، وأصبح الغزيون نصفين، نصفا لا يدفع، ويستهلك عشرة أضعاف حاجته، وآخرون يلتزمون بالدفع، ويحاسبون إذا تأخروا في تسديد الفواتير الشهرية، وهذا بالتأكيد سيُصيبُ الملتزمين بتسديد الفواتير بالقهر والإحباط، ولوم النفس، والرغبة في الانضمام إلى مجموعة المتمردين على دفع الفواتير! أمَّا السلاحُ الفتَّاك الآخرُ، الذي جُرِّبَ بشكلٍ محدودٍ حتى الآن، هو سلاحُ الماء!  ويُعتبر سلاحُ الماء من أقوى الأسلحة وأخطرها، لأنه هو المشروع الاستعماري والتفكيكي الجديد، وهو سلاح الحرب المائية العالمية القادم! شجَّعتْ منظمةُ التجارةِ العالمية فنونَ استهلاك المياه، لتبيع منتجات التنظيف، ومُرفهات الحمامات، ومستحضرات التجميل، فدفعتْ الناس إلى إدمان استهلاك المياه، وصار غسلُ الأسنان لفردٍ واحدٍ - على سبيل المثال- يحتاج إلى عدة ليترات من الماء النقي الصافي!! ولم ترفع هذه المنظمة شعارَ المحافظة على موارد البيئة، بأن تعلم الناس الاقتصاد، وعدم إهدار المياه، ولم تُشجع حتى الدعاية للمحافظة على المخزون المائي، ولم تسعَ لتوظيف تكنلوجيا العصر، لابتداع آلات وأدوات جديدة، للاقتصاد في استهلاك المياه! وكل تلك الممارسات مقدمة لإشعالِ آخر حروب الألفية الثالثة، التي ستشتعل بسبب (شحّ المياه)! إن الصراع القادم على قطرات الماء في المستقبل، هو الصراع القاتل، والذي يمكنه أن يُعيد تفكيك الأمم، وإعادة صياغتها من جديد، في حروب طاحنة على مصادر المياه، وهذه الحروب ستعيد تاريخ الإنسان البدائي الأول!! أما السلاحُ الفتَّاكُ الثالثُ المخبوءُ في الأدراج السرية، وهو أيضا أقوى من كل الأسلحة، لأنه يمسُّ البطون، بطون الأمم، فما الأممُ سوى زواحفَ تسعى على بطونها! إنه سلاحُ القمح، وتدورُ حروبٌ سرية على هذا السلاح، بين أكبر الدول إنتاجا للقمح في العالم، وهي، الصين، والهند، وأمريكا، وروسيا، وهذه الدول يمكنها أن تقلب موازين العالم، بين يومٍ وليلة، وأن تُشعل الحروب الطاحنة، وأن تُغير شكل النظام العالمي في المستقبل القريب!! ملاحظة أخيرة:   للأسف فإن السلاحَ النوويَ هو التهديدُ البارزُ في عالم اليوم، والحقيقةُ، أن الحروبَ الثلاثة السالفة لا تقلُّ هولاً عن السلاح النووي، بل هي الأكثر قسوة وخطورة!!