هل استقال الرئيس وبقية الأعضاء الذين أُعلِن عن استقالاتهم أم لم يستقيلوا؟ نفى صائب عريقات الاستقالة (ليبرر على ما يبدو انتخابه أميناً للسر في نفس جلسة الاستقالة، فإذا استقالوا كيف تم اختياره لمنصب بدأ يمارسه أصلاً قبل الاجتماع، وإذا لم يستقيلوا لماذا دعت اللجنة التنفيذية إلى جلسة غير عادية)، بالرغم من تأكيد غسان الشكعة وعدد آخر من أعضاء اللجنة التنفيذية المستقيلين الخبر، بينما قال بعضهم، إن الاستقالة «هيك وهيك»، إلى أن حسم الرئيس الأمر بتأكيده استقالته وزملائه من التنفيذية.
ما يجري في الساحة الفلسطينية منذ فترة ليست بالقصيرة يدل على أن القضايا الكبرى تضيع في خضم الأحداث والمصالح الصغيرة، فهناك حالة من الشيزوفرينيا تجتاح القيادة الفلسطينية وتلقي بظلالها على القوى والأشخاص المحيطين بها.
تظهر الشيزوفرينيا في تصريحات أعضاء اللجنتين التنفيذية للمنظمة والمركزية لفتح، وما جاء في بيانات وتصريحات عدة قوى وأمناء عامّين وقيادات مختلفة؛ إذ يطالبون بعقد جلسة عادية للمجلس الوطني، في نفس الوقت الذي يدافعون فيه عن عقد جلسة غير عادية، لدرجة أن بيانين مختلفين لفصيلين يساريين احتويا على الموافقة على الدعوة إلى جلسة عادية وجلسة غير عادية في نفس الوقت، واحد منهما قبل اجتماع اللجنة التنفيذية متضمناً استقالة ممثل هذا الفصيل من اللجنة، والآخر بعده الذي تضمن بعد مطالبته بعقد جلسة عادية موافقة على عقد الجلسة الاستثنائية مع التشديد على الالتزام والتقيد بأحكام النظام الأساسي، وبخاصة الفقرة (ج) من المادة 14، التي تجيز عقد المجلس بمن حضر لملء الشواغر في عضوية اللجنة التنفيذية. فهل يريدنا هذا الفصيل أن نصدق حقاً أنه يدعو إلى قبول استقالة الرئيس والأعضاء العشرة الآخرين الذين استقالوا معه كما طالب محمد دحلان جهاراً أم أن وراء الأكمة ما وراءها.
نفس الأمر نراه في كيفية التعامل مع دعوة «حماس» و»الجهاد» إلى المشاركة، فقياديون من «فتح» وفصائل هامشية وغير هامشية يتحدثون الشيء وعكسه في نفس الوقت، فهم يقولون إن «حماس» لا تريد المشاركة دون أية دعوة جدية لها بالمشاركة، ودون أن يشركوها في اللجنة التحضيرية، بل إن قائداً يسارياً فسر عدم دعوة «حماس» لأن رفضها للمشاركة في حال دعيت سيعزز الانقسام وكأن عدم دعوتها سيعزز الوحدة!
والشيء نفسه يظهر بشكل أكثر مأساوية عند الحديث عن جدول أعمال المجلس الوطني القادم، فالكل يعلم أن جدول أعمال الجلسة غير العادية ليس جدولاً كاملاً، و يكاد أن ينحصر في ملء الفراغ الناجم عن الاستقالة، وأكثر ما يمكن أن تشهده نقاشاً سياسياً، فليس من اختصاص الجلسة غير العادية تقييم المرحلة الماضية واستخلاص الدروس والعبر والمساءلة والمحاسبة وتغيير البرنامج السياسي، وأقصى ما يمكن أن يحدث فيها نقاش سياسي سريع وصدور بيان أشبه بالبيانات الصادرة عن اجتماعات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، التي تبقى في العديد من الأحيان حبراً على ورق.
مسألة أخرى تدور في الكواليس أكثر ما تناقش علناً، وتحدثت لي عنها عدة قيادات فلسطينية، وهي أن الرئيس يريد من خلال دعوة المجلس الوطني إلى الانعقاد تجديد شرعية منظمة التحرير وحمايتها من الأخطار الداخلية والخارجية التي تتهددها، بما فيها خطر توصل «حماس» إلى اتفاق مع إسرائيل حول تهدئة طويلة الأمد، تمهيداً لخروجه وتحميله الأمانة لخلفه أو خلفائه لكي يواصلوا المسيرة، أي أنه لذلك مستعجل جداً، لذا اختار الدعوة إلى جلسة غير عادية، لأن الجلسة العادية تحتاج إلى تحضير لأشهر عدة، بينما التحضير لجلسة غير عادية يستغرق أسابيع عدة.
أليس غريباً أن ممثلي قوى ميكروسكوبية ممثلة في اللجنة التنفيذية الحالية وأخرى تطمح في التمثيل في اللجنة القادمة هي التي تتصدر المشهد وتطالب بالعقد السريع للمجلس حفاظاً على مصالحها الفئوية، التي لن تحصل عليها إذا تم التحضير للمجلس بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي؟
هل الهدف تحقيق خروج سريع للرئيس، أم مخرج آمن يقوده الرئيس للشعب والقضية، ويمكنه من الاطمئنان على أن السفينة الفلسطينية ستكون قادرة على السير بالرغم من الرياح والعواصف العاتية؟
وأليس أفضل أن يكون هذا بعد توحيد، أو على الأقل بعد عمل جدي على توحيد الشعب بمختلف تياراته، ووضع أقدامه على بداية مسار جديد يستطيع أن يحقق الانتصار الذي عجز المسار أو المسارات التي اتبعت عن تحقيقه؟
إن التحضير الارتجالي والسريع لعقد جلسة غير عادية للمجلس الوطني سيؤدي إلى بث الخلاف والوقيعة داخل المنظمة وداخل كل فصيل وبين المستقلين كما حصل فعلاً، على خلفية إذكاء روح المنافسة الفردية على من يفوز بعضوية اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي، إذ ستكون المفاضلة بين الأفراد الذين سيعتبر كل واحد منهم بأنه الأحق، وليس بين القادرين على السير في طريق جديد، طريق الخلاص الوطني، وهذا في أحسن الأحوال سيؤدي إلى انتخاب لجنة تنفيذية مشكوك في شرعيتها، لأن انتخابها تم في مجلس بمن حضر، وبإقصاء يعطي ذريعة لمقاطعة قوى ذات وزن شعبي كبير لا يمكن إنكاره للجلسة، إذ لا يمكن الادعاء في ظل مقاطعتها من دون توفير فرصة حقيقية لها للمشاركة بأن المنظمة بعد الجلسة غير العادية المطعون في قانونيتها ستكون قادرة على تمثيل الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.
تكمن الخشية في أن تغليب هندسة المؤسسات على مقاس شخص واحد أو لون واحد لا يقود بالضرورة إلى خروج آمن وسريع، وإنما قد يقود إلى بقاء طويل وإلى تجديد البيعة، أو إلى خروج غير آمن لا للرئيس ولا لشعبه ولا لقضيته.
إن المانع - على الأرجح - للدعوة إلى عقد جلسة عادية أنها تتطلب عقد المجلس بجدول أعمال كامل، وما يعنيه ذلك من تقديم اللجنة التنفيذية تقريراً شاملاً عن عملها، وعليها تفسير سبب موافقتها على تقزيم دور المنظمة، وعن ضرورة تغيير البرنامج السياسي، لأن برنامج المفاوضات وأوسلو أوصلنا إلى كارثة تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان والانقسام وتهميش القضية، كما أن الجلسة العادية تحتاج إلى نصاب يتمثل بمشاركة ثلثي أعضاء المجلس، أي حوالي 500 عضو، وهذا العدد غير مضمون حضوره، لا سيما إذا قاطعت «حماس» و»الجهاد» وأعضاء مستقلين الجلسة، إضافة إلى الذين لن يتمكنوا من الحضور بسبب عدم حصولهم على الرقم الوطني، أو رفضهم للحضور تحت سيطرة الاحتلال، أو لعدم إعطائهم تصريحاً من قبل إسرائيل كون الجلسة - كما أعلن مسبقاً - ستعقد في رام الله.
يكمن الحل في التمسك بخيار الدعوة إلى عقد جلسة عادية وتشكيل لجنة تحضيرية من أعضاء الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، أو بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي، لا سيما الموقعين على «اتفاق القاهرة»، تتولى تحضير الملفات القانونية والسياسية، على أن يتم اختيار عاصمة عربية يتمكن جميع أعضاء المجلس الوطني من الوصول إليها والمشاركة في الجلسة، وإذا لم يتوفر النصاب لسبب أو لآخر، مثل مقاطعة «حماس»، التي ستتحمل في هذه الحالة المسؤولية الكاملة عنها وحدها؛ عندها تتوفر الظروف القاهرة التي تنص عليها الفقرة (ج) من المادة 14، التي تمكّن من عقد جلسة غير عادية بمن حضر، وليس يكون الحل بخرق النظام الأساسي للمنظمة بالقفز إلى الاستثناء (الفقرة (ج) من المادة 14) قبل استنفاذ القاعدة العامة المنصوص عليها في الفقرتين (أ) و(ب) من المادة نفسها، اللتين تنصّان على ضرورة ملء الفراغ في اللجنة التنفيذية من قبل مجلس بكامل أعضائه عبر جلسة عادية، ولا يمكن في كل الأحوال انتخاب لجنة تنفيذية جديدة في جلسة غير عادية، وإنما الممكن ملء الفراغ الناجم عن الاستقالات.
الشراكة على أساس عقد اجتماعي وبرنامج سياسي جديد يلتزم بهما الجميع هي كلمة السر ومفتاح الخلاص الوطني. وإن عدم استعداد القوى، وخاصة حركتي فتح وحماس للشراكة، وتغليب القوى الأخرى، خاصة الميكروسكوبية، لمصالحها الفئوية ومصالح قياداتها الفردية وأمنائها العامين على المصلحة العامة؛ هو الذي يمنع تشكيل مجلس وطني جديد كما جاء في «اتفاق القاهرة»، لأن المجلس الحالي انتهت صلاحيته منذ فترة طويلة، أو دعوة المجلس القديم نفسه إلى الانعقاد، مع الحرص الجدي على مشاركة مختلف تيارات وقوى الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.