لن يستطيع أحد تصفية القضية الفلسطينية

thumbgen (21).jpg
حجم الخط

بقلم: علاء الدين أبو زينة

 

إنك قد تظلم أحدا أضعف منك وأقل نصيرا، فتستقوي عليه وتجرده من ممتلكاته وحقوقه. بل إن أنصارك الأقوياء قد يجبرونه على القدوم إلى تجمع والتوقيع على تعهد بعدم التعرض لك والتنازل عما أخذته منه عنوة، لكن قضيته لا تكون قد صُفيت حقا في واقع الأمر. سوف تظل خائفا كل الوقت من انتقامه، وسيظل أبناؤك وأحفادك خائفين من أبنائه وأحفاده لأن القلوب لم تصف، ولأن صاحب الحقّ لن يكف عن استكشاف الطرق لاستعادة حقه وكرامته. وسوف يعلِّم أبناءه -مع الأبجدية- أنَّ لهم حقاً لا بُدَّ أن يُستعاد، إلى أن تتغير الموازين -وما أكثر ما تتغير في التاريخ- ويعود الحق إلى أصحابه.
بطبيعة الحال، ليست القضية الفلسطينية مشاجرة بين شخصين على أملاك وحقوق عادية.

إنها قضيّة طرفها المضطهد شعب كامل وعنيد وغير مستكين، في مقابل قوى عظمى وحشية تتحكم في القرار العالمي. والحقوق فيها ليست مسألة بيت أو حديقة، وإنما مسألة كرامة وحرية وضرورات إنسانية. والأملاك فيها ليست أقل من وطن تاريخي عريق من أجمل الأوطان. ولا يكفي لتصفية قضية بحجم وعدالة وجلالة القضية الفلسطينية أن يوقع أحد على التنازل عن شيء؛ فالمسألة لا تتعلق بفرد أو فصيل.

ربما يوقع شخص أو فريق، لكن الملايين سيأتون ليخبروك بأن هكذا توقيع لا يستحق ثمن الحبر الذي كُتب به، وبأن هكذا صك يصلح فقط لأن تنقعه في كأس ماء وتشربه.
هناك الكثير من صكوك التمليك أو التنازل التي شهدتها القضية الفلسطينية: وعد بلفور؛ وقرار التقسيم الذي منح أكثر من نصف فلسطين للمحتلين، ثم القرار 242 الذي أعطى أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية للكيان الصهيوني.

وربما لا يتوقف الأمر حتى عند اتفاقيات أوسلو التي اعترفت للكيان الصهيوني –ووقعها فلسطينيون- بهذه الثلاثة أرباع. لكنّ كل ذلك لم يغيِّر قيد شعرة إيمان أبناء اللد والرملة وحيفا ويافا وبئر السبع، ومئات المدن والقرى الفلسطينية التاريخية، بحقهم الذي لا يخالطه شك في استعادة مدنهم وقراهم.
مسألة فلسطين بالنسبة للفلسطيني مسألة وجودية. إنها لا تتعلق مطلقاً بأملاك مادية أو بامتلاك جنسية أو هوية وطنية بديلة.

وقد امتلك الكثير من الفلسطينيين منازل وقصوراً وأنشأوا أعمالاً –أو تدبروا أمور عيشهم بأي مستوى- وحصل معظم المنفيين منهم على جنسيات عربية وأجنبية. لكن ذلك لم يغير شيئاً في هويتهم النفسية والجينية الأصلية التي يعنونها وصف “لاجئ”.


يلخص فكرة “اللاجئ” ومعناها العميق اقتراح كتبه ناشط سلام من الكيان في مقال، يقضي بأن يسمح الكيان الصهيوني بعودة اللاجئين الفلسطينيين. ويقول فيما يقول إن مائة ألف فلسطيني، وربما مليوناً، هم الذي سيعودون حقاً إلى البلد، والذين يمكن استيعابهم ودمجهم، بينما للبقية مصالح وحيوات اعتادوها حيث هم. وقد يكون تقدير الكاتب صحيحاً وقد لا يكون. لكنه يؤشر على جوهر مسالة العودة بالنسبة للفلسطيني.


إن ما يريده الفلسطيني من حق العودة هو إعماله حقه في الاختيار، المكفول لكل مواطن طبيعي في العالم. ربما يحصل مواطن من أي بلد على جنسية بلد آخر، لكنه سيمتلك دائماً إمكانية العودة إلى بلده الأول كيفما شاء. أو أنه رُبما يُخيَّر بين الاحتفاظ بجنسية بلده أو استبدالها بجنسية أخرى، فيمتلك في هذه الحالة أيضا حق الاختيار –بغض النظر عن المقايسات التي قد تحدد اختياره.

أما الفلسطيني فلا يمتلك هذه الخيارات. سوف يريد دائماً امتلاك حقه الطبيعي في العودة إلى وطنه للإقامة فيه، أو الاغتراب عنه بإرادته كما يفعل الناس في كل مكان. وعندئذ فقط سيتخلص من صفة اللاجئ ويستعيد جزءاً مهما من الطبيعية، ويستقر ذلك الجزء القلق والمقلق من نفسيته.
يقترح العارفون بمسارات القضية، من الأجانب قبل العرب، أن ما تسمى “صفقة القرن” تكشف عن جهل مطبق لدى الرئيس الأميركي وفريقه بطبيعة الشعب الفلسطيني.

ويحاولون تذكيرهم بأن عقوداً من الجهود المجنونة، والقمع الوحشي، والقرارات الدولية والوعود، لم تستطع تحويل الشعب الفلسطيني عن غاياته أو أن تُخضعه أو تلغيه. ولن تُغيِّر أي أوراق أو قرارات إضافية أياً من ذلك، ما دام الذي يسندها هو القوة وليس الحق.

وستكون “تصفية” القضية الفلسطينية ممكنة في حالتين مستحيلتين: استسلام الفلسطينيين جميعاً وتسليمهم، أو إبادتهم حتى آخر طفل في أبعد منفى.

عن "الغد" الأردنية