متلازمة "الرمادية" الفلسطينية!!

غازي حمد.jpg
حجم الخط

كتب د. غازي حمد

 

(1)        في مصنع إعادة التدوير!!

من أصعب الحالات أن تحوم/ تستسلم في المنطقة الرمادية، لا أنت قادر على التقدم، ولا التأخر!! والأدهى من ذلك أن تستمرئها، وتستسيغها وتتكيف معها (ستوكهولم سيندروم)، أو تظن بأنها أرض الملعب المفضلة التي يمكن تسجيل الأهداف فيها!!

الارتكاس في هذه المنطقة دلالة على مرض مزمن من التيه والاضطراب والغرق في تفاصيل الحياة اليومية، وفقدان النظرة إلى المستقبل.

الحياة السياسية في فلسطين -منذ عقود- تصول وتجول بين جدران القلعة الرمادية: لا تقدم في الملفات الحساسة والمهمة، لا إنجازات كبيرة، ولا خروج عن الدوران الذاتي، ذلك أنها تدخل في مصنع (إعادة التدوير)، وكل مرة بغلاف جديد، وحراك جديد، وبيانات جديدة!!

انظر إلى ملف المفاوضات السياسية الذي جمد تقريباً منذ عام 2000 (مفاوضات كامب ديفيد)، وتوقف عند نقطة محددة لم يتجاوزها، ثم بدأت الأمور تدور حول نفسها: مبادرات، اقتراحات، ولقاءات، ومؤتمرات، وكلها طلعت (على فشوش) كما يقال!!

لما يقارب العشرين عاماً لا شيء جديد.

هناك من يخرج ليقول: تحركنا في المحافل الأممية، وقعنا اتفاقيات، واتخذنا خطوات وقرارات، وخاطبنا الهيئات الدولية؛ لكن النتيجة هي هي: التيه أكثر في المنطقة الرمادية!!

ولا يزال أصحاب السلام يطرقون الأبواب الحديدية الصدئة (للسجن الرمادي)، والتي غُلِّقت عليهم، عسى أن تدب الحياة في مفاوضات عقيمة، أو سلام موهوم، أو دولة باتت في عالم الأحلام.

غزة- التي تقاتل بشراسة للانعتاق من ربقة الحصار، ورسم لوحة وطنية مناضلة ومعاندة -  تحاول جاهدة الخروج من المنطقة الرمادية المحكمة حولها، الا انها ورغم صخب الأحداث وتركيز الإعلام لم تتجاوز اسلاكها الشائكة: يدخل وفد، ويخرج آخر، جولة تصعيد تليها أخرى، تأخذ استراحة (تهدئة) في انتظار الثانية، والوسطاء يروحون ويجيئون، وكل مرة تعلق آمال جديدة.

وسبق للمصالحة أن أخذت (من جلدنا راقة) على مدار ثلاثة عشر عاماً.

 والتهدئة تسير على إثرها!!

ومسيرات العودة تحولت إلى حالة اعتيادية (ضاغطة) كل أسبوع.

الناس أصبحت تعيش حالة (اليوم يوم): وصول الوفد، خروج الوفد، نزول الراتب، توزيع المئة دولار، انتهاء التصعيد، ثبوت التهدئة، (فتح) البحر (سكر) البحر، في حرب... فش حرب!!

ومع ذلك، تحاول غزة إشهار سيف المواجهة مع الاحتلال، والتسخين على الحدود الشرقية، وتصدر الموقف الوطني، وابتكار سبل لإبقاء القضية الوطنية حية في نفوس المواطنين.

بين الحين والآخر(تنبت) بعض الإنجازات وسط الغابة الرمادية، ويعتبرها بعض المحللين المسكونين بهوس التحليل (تحولاً تاريخياً) على صعيد الصراع، ثم سرعان ما تنزوي؛ ليجري الانتقال إلى قصص وتفاصيل صغيرة.

وللأسف، يجد بعض النشطاء السياسيين والقيادات في الخطابات، والمهرجانات، وورشات العمل، والندوات - التي تتكاثر بشكل يومي- (عزاء) وبديلاً لتعبئة فراغ الحالة الرمادية، وملؤها بكثير من التصريحات والخطب، والحديث عن إنجازات كبيرة!!

حتى الاجتماعات- الوطنية والفصائلية- تعاد وتقولب، وتؤكد على المؤكد، وتشدد على النفي، ويحل الكلام مكان الفعل، والشعار بدل الخطة.

في الساحة الرمادية تسمع صخبا كثيرا وأصواتا عالية, وترى حراكات وفعاليات لكنها غير قادرة على تجاوز جدران السجن!!

وهكذا دواليك، يمر اليوم والأسبوع والشهر والسنة، والأسطوانة ذاتها تدور دونما تغيير أو إنجاز حقيقي!!

(2)        الخروج الإجباري عن الواقع

هكذا معادلة مملة، مؤلمة وقاسية، تسرق الوقت والجهد, وتدخل الناس في حالة من الحيرة والضبابية، وأحياناً في حالة من (الوهم) والانتفاش، وتضخيم المنجزات، وتكبير المصغرات، ورسم المعادلات من طرف واحد.

إن السقوط في وحل المنطقة الرمادية، وعدم القدرة على الخروج من مستنقعها، تجرنا قسراً إلى الهروب من الواقع، وتكرار الحديث عن منجزات الماضي (المبهر)، وتعليق الناس بوعود غير واضحة المعالم!!

الحالة الرمادية تجبرنا على الخروج من الواقع إلى التعلق بالغيبيات، بل والصدام مع السنن الإلهية، والدخول في نقاش عقيم حول زمن وصولنا إلى عتبة المسجد الأقصى، وتحرير فلسطين، والمرابطة على ساحل عسقلان!!

إنها تثقلنا بالكثير من الأسئلة المرهقة والفاقدة للأجوبة، وأحياناً تقدم أجوبة غير مقنعة، مغلفة بكثير من (البهارات)، والوعود الكلامية.

يومياً تكاد ترى عشرات التصريحات المكررة والمملة حول ذات المصطلحات, والتي تؤكد على... وترفض كذا ... وتدعو المجتمع الدولي إلى... وأن الوحدة الوطنية هي... وأن الانقسام هو... وأن الاحتلال ...!!

تمر السنة والسنتان والعشرة والكلام كما هو..لا شيء خارج عن الروتين اليومي.

إن غياب روح المبادرة، وطرح الأفكار الجدية والعملية تمنح الأخرين فرصة استغلال المنطقة الرمادية؛ لإغراق الجمهور بقضايا فرعية/ صغيرة، وتحويلها إلى قضايا رئيسة شاغلة ومستحوذة على تفكيره.

ضعاف النظر السياسي يبررون بأنه (ليس بالإمكان أفضل مما كان)، وأن المنطقة كلها تعيش حالة من الرمادية المزمنة، وأنه لا يمكن هدم جدرانها أو الهروب منها!!

طرح التبريرات ينم عن العجز، وقلة الحيلة، والاستسلام للواقع، وانعدام التفكير الاستراتيجي والمستقبلي، والتخطيط المحكم لأي توقعات محتملة.

المنطقة الرمادية أصبحت سجناً تُعتقل فيه كل الأحلام والتطلعات، وحتى الأفكار الصحيحة والإبداعية، وكأنه محكوم علينا عدم الخروج منها والتكيف معها، فهي تجبر المواطنين على (الطواف) ما بين غرف السجن والفورة (نزهة السجن)، وبين الفورة وغرف السجن؛ لكي يتنسموا قليلاً من الهواء المنعش!!

بعض القوى السياسية تجد أن المنطقة الرمادية (مريحة جداً) لها، بحيث تعفيها من مسؤوليتها عن اتخاذ القرارات الشجاعة والجريئة، وتبني الإبداع الفكري والتخطيط المستقبلي، وكسر الروتين اليومي، وتقديم حلول ومبادرات ذات صبغة استراتيجية!!

(3) هل يمكن الانعتاق منها؟

نعم، يمكن.

 بل إن مغادرتها واجب سياسي ووطني.

نحن نريد أن نخرج من حالة(الدوار) ونشعر أننا نتقدم كل يوم، ولو مسافة قصيرة, أو حتى خطوة واحدة.

 يمكن مغادرتها إذا توفرت الإرادة والوعي الوطني، وإذا اقتنعنا أن هذه منطقة (ألغام خطرة)، تستنزف الوقت والجهد، وتلغي الحراك العقلي والفكري، وتقضي على أي محاولة خلاقة للخروج من دوامات السقوط السياسي أو الانقسام الوطني.

من الضروري التحرر من سجن الشعارات والطرق التقليدية التي جربت، ولا تزال تجرب، ومن الوسائل (المكلفة) التي ثبت عدم جدواها.

يمكن مغادرتها إذا آمنا بأن الخروج منها يقود إلى فضاءات أوسع، ومساحات أفضل لاستحضار الخيارات الوطنية، وتجميع الطاقات، ورسم الرؤية الاستراتيجية، والتقدم تباعاً نحو تحقيق الأهداف.

المحبوسون في (السجن الرمادي) يرون في ذلك فلسفة نظرية، وأن الخروج شاق ومتعب؛ لذا يكونون سعداء لرؤية التفاصيل اليومية الصغيرة وهي تروح وتجيء.

من أهم العوامل التي تضمن تحطيم جدران القلعة الرمادية وكسر أغلالها وقيودها، هو- نفس ما نطرحه دائما وأبداً- الاتفاق على الرؤية الوطنية الشمولية(أفكار ,أهداف,وسائل وخيارات)، الواقعية عملاً، والمجدولة زمناً، والمنظمة آلياً، والمحشد لها شعبياً وعربياً ودولياً.

بذلك يمكن أن نخلق كل يوم عملاً جديداً وإنجازاً جديداً.

بذلك يمكن أن نسجل كل يوم هدفاً حقيقيا، ونقترب أكثر من الأهداف الكبرى.

وبذلك يمكن أن نتأكد من أننا نسير في الطريق الصحيح، المعاكس لطريق الوهم والتيه.

فليكن لدينا قرار وطني بهدم (السجن الرمادي)، والتحلل من أغلاله، والانطلاق في ساحة العمل الوطني.

هكذا - بكل تأكيد- نحرر الأرض والوطن والإنسان.