انكفاء أميركي

رجب أبو سرية.jpg
حجم الخط

رجب أبو سرية

فرضت المخرجات الهزيلة لورشة المنامة انكفاء أو حتى تراجعا في الموقف الأميركي تجاه القيادة الفلسطينية، حيث أدرك البيت الأبيض، أنه رغم كل شيء، فإن الموقف الفلسطيني ما زال مؤثرا وفاعلا في رسم الخارطة السياسية للمنطقة، خاصة فيما يخص ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي وتأثيره ومكانته في مواقف الدول العربية، مهما حاولت إسرائيل أن تدفع الأمور لتكون غير ذلك.
وبعد كل ما أوحت به إسرائيل للبيت الأبيض، بعد جملة من الخطوات والإشارات، بأن دول الخليج العربي، باتت مقتنعة بتجاوز الموقف الفلسطيني، وبأن سياسة العصا قد آتت أكلها، فقد جاء الشكل الهزيل للورشة ليؤكد أن الأمور ليست بتلك البساطة التي يقول بها بنيامين نتنياهو، وما كانت الورشة أصلا، إلا «بروفة» أو جس نبض لما يمكن أن تتخذه لاحقا الإدارة الأميركية فيما يخص خطتها تجاه المنطقة، أي صفقة العصر.
لقد فرض الموقف الفلسطيني أن تنعقد الورشة دون أي صفة رسمية، وجعل منها مجرد «ورشة أن جي أوز»، لا قيمة سياسية لها، رغم ما حاولت إسرائيل ترويجه من إنجاز يتعلق بدخول صحافيين وشخصيات إسرائيلية للدولة العربية بجوازاتهم الإسرائيلية، لكن في الوقت نفسه، لم تجرؤ إسرائيل على إرسال وزير ماليتها ولا أي شخصية ذات صفة رسمية/سياسية، كما فرضت على الحضور العربي أن يعيد على مسامع جاريد كوشنر الموقف الثابت بأن مدخل الحل إنما هو سياسي ويمر عبر إقامة الدولة المستقلة والقدس الشرقية عاصمتها.
لذا فقد جاءت مواقف وتصريحات نفس الطاقم الذي نعق ليل نهار من قبل، بكل ما يتضمنه من عداء للجانب الفلسطيني، مختلفة، وما يشاع هذه الأيام من عودة البيت الأبيض للتأكيد على ضرورة إعادة الاتصال مع القيادة الفلسطينية إلا دليل واضح على ذلك التراجع.
في الحقيقة باتت واضحة لكل متابع الطبيعة المتخبطة للسياسة الخارجية الأميركية، تلك التي وصفها المرشح الديمقراطي المنافس لترامب في انتخابات الرئاسة العام 2020، جو بايدن، بأنها متطرفة ومتقلبة، استناداً لما ظهرت عليه تجاه كوريا الشمالية، فنزويلا، وإيران، ويبدو أن نفس الشيء سينطبق على الموقف تجاه القيادة الفلسطينية.
ولعل ما قاله جيسون غرينبلات في لقاء مع «الحرة» مؤخراً، يشي بهذا التحول، حين أشار إلى أن دول الخليج تريد حماية بلدانها من إيران، لكنها في الوقت نفسه، لا تريد التخلي عن الفلسطينيين، وأن إدارته ترغب في الاتصال بالقيادة الفلسطينية.
طبعا هناك عوامل إضافية تدفع باتجاه تعديل الموقف الأميركي، لعل أهمها ليس تقلب السياسة الخارجية لترامب والتي يبدو أنها ستكون واحدة من مواد الدعاية للخصم الديمقراطي، وحسب، بل أيضا ضعف نتنياهو، الذي وضعت إدارة ترامب كل بيضها في سلته، والذي يتأرجح مستقبله بين سقوط وبقاء مكبل إما بليبرمان أو حتى بغانتس، الذي يوافق على شراكة مع الليكود ولكن دون نتنياهو.
هذه الإشارات تؤكد صحة الموقف السياسي الفلسطيني الرسمي، الذي قال لا لترامب وصمد في وجه عصا العقوبات السياسية والمالية الأميركية/الإسرائيلية المزدوجة والثنائية، لكن ما تحقق ليس نهاية المطاف، فما زالت المعركة مستمرة، والتراجع الأميركي - في تقديرنا - ما زال في إطار تصريحات المسؤولين الذين سبق لهم أن أعلنوا مواقف عدائية شديدة العداء للحقوق الفلسطينية، والذين كانوا قد أطلقوا العنان للقول بالتعامل مع ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي وفق منطق مختلف، ومعايير مختلفة متطابقة تماما، مع موقف اليمين الإسرائيلي المتطرف وليس مع الاتفاقيات التي وقعتها إسرائيل نفسها، فضلاً عن القانون الدولي.
لذا فإن الموقف الرسمي الفلسطيني، ومن موقع قوة، أكد أن عودة الاتصال مع الإدارة الأميركية يتطلب تراجعها ليس في لغة التصريحات وحسب، بل عن قراراتها التي اتخذتها إزاء القدس واللاجئين، كذلك تأكيدها حل الدولتين والحق الفلسطيني بإقامة الدولة المستقلة على حدود 67 بالقدس الشرقية عاصمة لها.
تماما، كما فعلت إيران في تحديها لنفس الإدارة التي في الوقت الذي فرضت عليها العقوبات، تحاول جرها لمفاوضات تجعل من تلك العقوبات أمرا مقبولا أو أمرا واقعا، وبالتالي إطارا للتفاوض، لذا ردت بالقول إنها لن تفاوض الولايات المتحدة ما لم تتراجع عن فرض العقوبات، هكذا هو أيضا الموقف الفلسطيني، الذي اتُخذ بإعلان أن أميركا لم تعد صالحة لرعاية التفاوض، وقطع الاتصال بها، بعد قراراتها المشار إليها، فلا يمكن الحديث مع إدارة أخرجت القدس من دائرة التفاوض، كذلك اللاجئين، وتقول بالحل الاقتصادي.
عموما نحن نعتقد أنه لم يعد هناك ما يغري البيت الأبيض لأن يعلن عن صفقة العصر، بعد ما رآه في ورشة المنامة، حيث إن المدخل الذي هو أقل إثارة للجدل، ووجه بهذا الصدود، لذا فقد بات من المؤكد لواشنطن أن طرح الخطة في هذا الوقت سيكون جنونا وغباء، فليس هناك من فرصة لها بالقبول ولا بنسبة واحد بالمائة.
كذلك فليس هناك من حامل للخطة، لا على المستوى الفلسطيني بالطبع وهذا واضح منذ زمن، ولا على المستوى العربي، وقد كان تحميل البحرين لعبء الورشة لمجرد أنها تنتمي لصفقة العصر سيئة الصيت والسمعة، مفهوما ومعروفا، كذلك فإن إسرائيل ذاهبة لانتخابات، مصير نتنياهو فيها في مهب الريح. 
ثم إن ترامب نفسه ومع نهاية هذا العام، سيكون قد انخرط فعليا وعمليا في معمعة الانتخابات الرئاسية.
ومعروف أيضاً أنه حتى لو أعيد انتخابه فإنه في ولايته الثانية لن يكون بنفس الحماس خاصة تجاه ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، وهكذا كان حال كل الرؤساء الأميركيين السابقين، فقط طموح كوشنر هو الذي يدفع بالخطة قدما، لكنه لن يكفي للذهاب بها بعيداً، ولأن النصر ما هو إلا صبر ساعة، فلا بد من استمرار الصمود الفلسطيني، إلى حين أن يصبح كل الحديث عن الصفقة مجرد كلام كان في الماضي.