العرب، ترامب، إسرائيل، الفلسطينيون (4-4)

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

أما وقد وصلنا إلى ترامب، فلا بأس من التذكير بحادثة طريفة وقعت قبل أيام. ففي لقاء جمعها، ضمن آخرين، بالرئيس الأميركي في البيت الأبيض، قالت له اليزيدية نادية مراد: قتل الدواعش أمي وستة من أخوتي، فسألها: وأين هم الآن؟!!
ولا أجد ما يبرر التندّر والذهاب أبعد، فإلى جانب المفارقات والنوادر اليومية في الصحافة الأميركية، تحتل لياقته الذهنية، ولا تسأل عن الثقافية والسياسية، خمسمائة وأربع وأربعين صفحة في "حالة دونالد ترامب الخطيرة: 37 أخصائياً وخبيراً في علم النفس والصحة العقلية يُقيّمون حالة الرئيس"، الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى قبل عام، والثانية الموّسعة في آذار العام الحالي، ومن المشاركين فيه أساتذة وأعَلام في تخصصاتهم، وفي جامعات أميركية مرموقة، ناهيك عن حقيقة صدوره عن دار نشر مرموقة، أيضاً.
ولكن هذا كله لا يُبرر غض النظر عن حقائق من نوع: أنه يقطن البيت الأبيض، الآن، وأن ملايين الأميركيين منحوه أصواتهم، وأن احتمال فوزه بولاية ثانية يظل قائماً ما لم يثبت العكس، وأن لديه مؤهلات استثنائية ومهارات. وعلى مدار أربع سنوات مضت، انخرط ما لا يحصى من علماء السياسة، والاجتماع، والنفس، والتاريخ، في الولايات المتحدة، وخارجها، في تحليل وتأويل ما ذكرنا من حقائق.
ولا أجد، في هذا الصدد، أفضل من تحليل نعوم تشومسكي، الذي يرى أن جناحاً في نخبة الجمهوريين، التي تضم كبار المتمولين عثر في ترامب، بعدما شعرت بالخوف من فقدان الصلة بقاعدته الانتخابية، على الحصان الرابح الذي سيمكنه من حصد الأصوات، وتوسيع قاعدة الحزب الانتخابية، والبقاء في سدة الحكم لتعديل التشريعات الضريبية بما يضمن المزيد من النفوذ والأرباح، علاوة على إنقاذ الإمبراطورية من مأزقها، بطبيعة الحال.
وأجد أن هذا ما تتردد أصداؤه، أيضاً، في محاضرتين لامعتين للفيلسوف الفرنسي آلان باديو، ألقاهما في الولايات المتحدة، بعد فوز ترامب، ونُشرتا في آذار العام الحالي في كتاب بعنوان "ترامب". فالمعركة الرئيسة، في نظره، لم تكن بين ترامب وهيلاري كلينتون، بل بينه وبين بيرني ساندرز، فكلاهما يمثل حلاً بديلاً لأزمة الإمبراطورية من جهتي اليمين واليسار.
وهذا، أيضاً، ما يمكن العثور عليه في تحليلات علماء السياسة والاجتماع الأميركيين عن "الأميركي الغاضب"، و"القومية البيضاء"، و"الشعبوية" و"اليمين البديل"، و"أميركا الثانية، أو المجهولة"، و"أحزمة الصدأ". وكلها، على أي حال، تعبيرات ترد في معرض تحليل سوسيولوجيا الناخبين الأميركيين، وحقيقة أن قطاعاً واسعاً، ممن منحوا أصواتهم لترامب، فقد الثقة "بالمؤسسة"، أي بنخبة الجمهوريين والديمقراطيين التقليدية، في ظل تدهور مستواه المعيشي، وخوفه المتزايد من خطر الإرهاب والمهاجرين، واحتمال تحوّله إلى أقلية.
وهذا كله مفيد في فهم ما نتكلّم عنه كلما اقتربنا من أهم الأسئلة: ولكن ما هي مهارات ترامب، ومؤهلاته الاستثنائية، التي جعلت منه حصاناً رابحاً بنظر جناح قوي في نخبة الجمهوريين، وجعلت منه مُخلّصاً في أعين بيض غاضبين وخائفين؟
ولا أجد، هنا، وفي معرض التفكير في سؤال كهذا أفضل من مشهد رسمه بوب وودورد، الصحافي اللامع، الذي أطاح كشفه لفضيحة ووترغيت بالرئيس نيكسون. ففي كتاب نشره في أيلول العام الماضي بعنوان "الخوف: ترامب في البيت الأبيض"، يُعيد وودورد إلى الأذهان تفاصيل لقاء في العام 2010، جمع ترامب بستيف بانون، وديفيد بوسي الخبير في سياسات، وانتخابات، الجمهوريين.
تم اللقاء بناء على طلب من ترامب، الذي أراد استشارة الاثنين في مسألة ترشحه لانتخابات الرئاسة الأميركية. وفي سياق اللقاء ذكّره بوسي بعقبات تعترض وصوله إلى انتخابات الجمهوريين التمهيدية، التي يتم فيها اختيار مرشّح الحزب للرئاسة. ومن تلك العقبات أن أحداً من الجمهوريين لا يوافق على حرية الإجهاض، بينما في سيرة ترامب وتصريحاته أكثر من دليل على تأييده لحرية الإجهاض.
حاول ترامب التملّص، وأدعى بأنه لم يؤيد الحق في الإجهاض، فقال بوسي: ولكن المواقف والتصريحات علنية وموّثقة. عندئذ أُسقط في يد ترامب، وردّ قائلاً: ولكن هل يمكن "تزبيط" هذا الأمر؟ قال بوسي: ممكن. وردّ ترامب: "حسناً، أنا ضد الإجهاض". 
ولا أريد الاستفاضة في جملة الأمور التي أراد ترامب "تزبيطها" في ذلك اللقاء. فالخلاصة أن أهم مهاراته تتمثل في إمكانية "تزبيط" أي شيء، وكل شيء، بصرف النظر عن تعارضه مع أشياء فكّر فيها، أو فعلها، من قبل، طالما أن في "التزبيط" ما يحقق مصلحة شخصية، وطالما أن الحقيقة ليست ما نقول، أو نفعل، بل ما ينبغي، ويمكن، تسويقه، وإقناع الآخرين به بوصفه الحقيقة.
ولا قيمة، هنا، للواقع، أو الذاكرة، أو النزاهة، أو المبادئ، ولا للتاريخ، أو المعرفة، ولا فرق بين الحقيقة والكذب، فلا معنى لأشياء كهذه إلا في نظر "الخاسرين"، وتلك كلمته المفضّلة في وصف كل من لا يعجبه من بني البشر.
بمعنى أكثر مباشرة لا تتجلى المهارات والمؤهلات الاستثنائية إلا بوصفها شطارة في فن السوق والتسويق. ولا يبدو من قبيل الصدفة، في سياق كهذا، أن تكون في طليعة الشهادات التي يمنحها لنفسه: الشطارة في عقد الصفقات، ولا أن يكون انتقاله في مرحلة لاحقة في سيرته المهنية من تطوير وتسويق العقارات إلى تطوير وتسويق ماركة مُسجّلة هي اسمه الشخصي.
ومع ذلك، ولذلك: هل استثمر أحد في الرهان على شخصية تلفزيونية، ونجم من الدرجة الثانية في صحافة التابلويد الأميركية، مع كل ما ذكرنا من مؤهلات، غير جناح في الجمهوريين؟ هذا ما سنأتي على ذكره في معالجة لاحقة، فالموضوع طويل.