نحن هنا، ومن هنا..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

نختم، اليوم، سلسلة معالجات بدأت قبل سبعة أسابيع في محاولة لقراءة الواقع، أو وصفه، إذا شئت. وقد حان دور الكلام عن الفلسطينيين بعدما انتهينا من موضوع العرب، وترامب، وإسرائيل. ثمه أكثر من مدخل، في هذا الشأن، ولعلنا نصبح أكثر قرباً من السياسة بقدر ما نبتعد عن صورها وتمثيلاتها اليومية، والفصائلية، المُبتذلة. ولعل في هذا، أيضاً، ما يُحرّض على البدء بتشخيص المنطقة التي يتواجد فيها الفلسطينيون في الوقت الحاضر، وهي رمادية بكل المقاييس. 
رمادية: لا لأن واقع الآن وهنا لا يُطاق وحسب، ولكن لأنهما ينفتحان على أفق لا يبشّر بالخير، وغير معلوم، أيضاً. وفي الأمرين ما يفسّر ويُبرّر ما يشبه قلقاً وجودياً غير مسبوق. وما يفاقم من مرارة وضع كهذا أن لغته لم تولد بعد، ولغة التعامل معه تنتمي إلى زمن مضى.
 فالعالم تغيّر، وكل ما يعرفه الفلسطينيون الأحياء، اليوم، عن أنفسهم، وعن العالم العربي، والعالم، ينتمي إلى زمن، ولغة، وأخيلة، الحرب الباردة. وربما دلالة هذا كله تُختزل في معادلة غرامشي الذهبية عن قديم لم يمت تماماً، وجديد لم يولد بعد؟ بكلام آخر، الآن وهنا هما عنوان الأزمة، وكل محاولة للتفكير، أو التفسير، لن تنجو من ثقل الإحساس بالعيش في زمن مأزوم، ولا من رغبة الخلاص منه.
ولعل أسوأ ما يمكن أن يصيب الناس في زمن الأزمة الوقوع في غواية أشياء من نوع: أن ما صلح ونجح في وقت مضى يصلح وينجح في كل وقت آخر. فالتاريخ لا يعيد نفسه، وإن فعل فالثانية قد تكون هزلية تماماً. لذا، فلنبحث عن منافذ جديدة، ودروب غير مطروقة. فالسائد، مثلاً، أن ما أبقى القضية الفلسطينية حيّة كان مزيجاً من إرادة الفلسطينيين، والقومية الراديكالية في بلدان عربية مختلفة، وما هب من ريح مواتية في عالم الحرب الباردة. 
وهذا كله صحيح بقدر ما، ولكن العامل الحاسم، وما أبقاها، وسيبقيها حيّة، كان فشل الإسرائيليين في إدراك أن طرد الفلسطينيين من الجغرافيا والتاريخ مستحيل، لا لأن قوّة الفلسطينيين خارقة، ولكن لأن لفشل كهذا، ومن عيار كهذا، فعل وفعالية السم في الجسد الإسرائيلي نفسه. 
والمشكلة: ليس في الأفق مع يدل على تدارك الفشل بقدر ما فيه من علامات الإصرار عليه. وخيارات الإسرائيليين، بهذا المعنى، انتحارية تماماً، سواء بوهم شرطي الشرق الأوسط الجديد، أو بتفعيل النزعات القيامية في اليهودية، التي لن تعود على الإسرائيليين بأفضل مما عادت الوهابية والسلفيات الجهادية على العرب والمسلمين. 
إدراك الإسرائيليين للفشل يُجنّبهم الوقوع في درك كهذا، وإصراراهم عليه يعني تحويل دولتهم إلى رهينة في يد القياميين اليهود. ويمكن صياغة هذه المعادلة بطريقة مختلفة: فإذا كانت أعناق الفلسطينيين في قبضة الإسرائيليين، مثلاً، فإن في معادلة كهذه ما يُحرّض على القول إن أعناق الإسرائيليين في قبضة الفلسطينيين، أيضاً.
وفي الواقع ما يعزز فرضية كهذه، فالفشل الإسرائيلي في إدراك أن طرد الفلسطينيين من الجغرافيا والتاريخ، معاً، مستحيل، يتجلى في أكثر صوره درامية، ودلالة، في حقيقة أن عدد الفلسطينيين يصل إلى 14 مليوناً من البشر، وأن نصف هؤلاء يقيم في أرضه وعليها. 
يعود الإسرائيليون، عادة، في تأريخ صراعهم مع الفلسطينيين إلى مائة عام مضت، ويقيسون نجاح مشروع الدولة بمساحة ما سيطروا عليه من أرض، وبعدد مَنْ يقيم عليها منهم. وبالاحتكام إلى معادلة كهذه فإن النسبة الأكبر من الأرض بين أيديهم.
 هذا صحيح، ولكن الميزان الديمغرافي لا يميل إلى صالحهم، فعدد السكّان الأصليين في فلسطين بحدودها الانتدابية يكاد يوازي عدد اليهود. بمعنى آخر، النتيجة ملتبسة، مع كل شيء، ورغم كل شيء، حتى بعد مائة عام. والفلسطينيون عموماً ليسوا مجرد أرقام بل يمتازون بحيوية فائقة. 
ولا ينبغي التقليل من شأن ودلالة نتيجة كهذه في كل تحليل مُحتمل لمعنى فشل الإسرائيليين في إدراك استحالة طرد الفلسطينيين من الجغرافيا والتاريخ، معاً، وفي ظل تنامي النزعات القيامية في أوساط الإسرائيليين أنفسهم. فالمستقبل يحتمل، وينطوي على، سيناريوهات كثيرة.
أخيراً، لا ينبغي لكل ما تقدّم أن يُقرأ كمحاولة للتقليل من مأزق المنطقة الرمادية، ولا من شرعية الإحساس بقلق وجودي غير مسبوق، بل التذكير بحقيقة أن وجود الفلسطينيين في الجغرافيا، والتاريخ، معاً، ليس أمراً عابراً، ولا قليل الأهمية في حسابات الربح والخسارة. فنحن هنا، ومن هنا، ولا مكان غير هذا المكان.