حكاية الفلسطينيين والعرب

حجم الخط

بقلم مروان كنفاني

يجمع المراقبون على أن ما تبقى من العام الجاري سوف يشهد تطورات خطيرة على الأوضاع في الشرق الأوسط، نتيجة عدة عوامل أهمها الانتخابات الأميركية والإسرائيلية والوضع المتصاعد في المواجهة مع إيران، وتطور المواجهات الجماعية في شمال سوريا، إضافة إلى إطلاق الولايات المتحدة المتوقع لمبادرتها لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، هذا إذا لم ينزلق الوضع نحو حروب مستعرة قد تغيّر وجه الشرق الأوسط بكامله.

ترفع الولايات المتحدة اليوم بقيادة الرئيس دونالد ترامب وإسرائيل، السيف لقطع الوريد وإغلاق الستار عن حلم الدولة الفلسطينية المستقلة، الأمر الذي يضع القيادات الفلسطينية في مواجهة هجمة تحمل في هبوبها مشاكل وحروب وانقسامات وتحالفات لا علاقة لنا بها ولا مصلحة. أين يقف الفلسطينيون اليوم من كل ذلك؟

الخطر الأكبر الناتج عن هذه التصرفات الأميركية لا يتمثّل في إسدال الستار عن القضية الفلسطينية، لأن ذلك ليس في مقدور إسرائيل أو الولايات المتحدة، لكنه رهن بتمسك الفلسطينيين وتحالفهم للاستمرار بالكفاح لاستعادة حقوقهم الشرعية.

الخطر الذي قد تتعرض له القضية الفلسطينية حاليا وفي المستقبل المنظور هو تهيئة الأجواء لصدام مدمّر بين الفلسطينيين من جهة وبين العرب، وليس إسرائيل، من جهة أخرى، الأمر الذي تنمو دلائله يوما بعد يوم.

يكمن هذا المنعطف الخطير في اختلاف المصالح والأهداف التي تفرض نفسها على أولويات وسياسات وربما تحالفات معظم الدول العربية، التي قد يعتبرها الفلسطينيون ضارة بأولوياتهم وأهدافهم.

سوف تفرض المرحلة القادمة على الجميع، عربا وفلسطينيين، اتخاذ قرارات مؤلمة إذا ما فشلوا في انتزاع دور لهم تجاه الأخطار التي تتعرض لها بلادهم، وأهمها العودة لفرض الوضع الراهن الذي يعرفه وعانى منه الجميع.

مرّ التاريخ السياسي الفلسطيني الحديث بمراحل عديدة تصادمت فيها مصالح القضية الفلسطينية مع حقائق السياسات العربية ومتطلباتها الخارجية وتوازناتها الداخلية. ودفع الشعب الفلسطيني وقياداته ثمنا باهظا لها.

ساهمت الجيوش والمتطوعون العرب في حرب عام 1948 ضد القوات الصهيونية ومتطوعين أجانب، واضطروا في النهاية لقبول الهدنة ومن ثم الاتفاق على وقف الحرب، الأمر الذي اعتبرته القيادات الفلسطينية آنذاك وعامة الشعب الفلسطيني حتى وقتنا الحاضر، بأنه خيانة للشعب وحقوقه وأهدافه.

في منتصف العقد الخامس من القرن الماضي وفي عهد الرئيس اللبناني كميل شمعون انحاز الفلسطينيون ذوو الغالبية السنية إلى الجانب اللبناني السني، وكسبوا منذ ذلك التاريخ عداء اللبنانيين المسيحيين وأحزابهم الذين كانوا قد ساهموا بجانب الفلسطينيين في الحرب الأولى.

وبُعيد عام النكسة عام 1967 ونتيجة للرفض الفلسطيني لاستكمال إسرائيل احتلال الأرض الفلسطينية فرضت المنظمات سيطرتها على العاصمة الأردنية وبدأ الكلام عن فلسطيني وأردني، وحتمت المصالح الأردنية والمصرية التوصل إلى اتفاقات انسحبت بموجبها إسرائيل من الأراضي المصرية والأردنية، وقوبل الأمر برفض وإدانة عميقة وصامتة ومفهومة في قلوب الفلسطينيين. رافق ذلك اتهام آخر جديد عن مسؤولية الفلسطينيين في إضاعة فرص السلام.

واكتسب الفلسطينيون عداء قطاع كبير من الكويتيين والعراقيين، معا، نظرا لتأييد بعض المنظمات الفلسطينية للرئيس العراقي صدام حسين في ذلك الوقت، وتم طردهم واعتقال العديد منهم كما تم ذلك من قبل دول الخليج العربية، إضافة إلى وقف المساعدات المالية التي كانت تمنحها تلك الدول لمنظمة التحرير الفلسطينية.

هل كان على الدول العربية تجنب تحقيق مصالحها في سبيل فلسطين؟ أم كان على الفلسطينيين أن يوافقوا ويهللوا لفقدان أرضهم وحقوقهم؟ وكيف يمكن للفلسطينيين التمسك بالحضن العربي دون التخلي عن الولاء الفلسطيني؟ وكيف العمل والتعامل مع التناقض الوطني والجماعي العربي في غابة التصادم والتحالفات التي تلف دول الشرق الأوسط؟

على الفلسطينيين أن يعترفوا بأن مصالح الدول العربية لها أولوية في ما يتعلق بأمنها القومي والدفاع عن أراضيها والجهد في تحسين حياة مواطنيها وحماية مصادرها الطبيعية ودعم موقفها الاقتصادي. وأن تدعم الدول العربية من جانبها الشعب الفلسطيني في التمسك بأرضه وحقوقه الشرعية في المحافل الدولية وفي علاقاتها الثنائية مع دول العالم، وتعمل على تحسين الحياة والعمل والتنقل للفلسطينيين، وتحثّهم على التوحد والاتفاق على برنامج سياسي مشترك.

إن القاسم المشترك الأعظم بين الدول العربية كافة وقيادة السلطة الوطنية الفلسطينية هو اتفاق السلام الفلسطيني الإسرائيلي لعام 1993 والمبادرة العربية لعام 2002 اللذين نالا موافقة الفصيلين الفلسطينيين الأقوى والأقدر في الساحة الفلسطينية.

على الدول العربية المعنية ألّا تضغط أو تفرض على الفلسطينيين موقفا لا يريدونه، وتحميهم من الإجرام والقتل الإسرائيليين، وترفض من حيث المبدأ الاستيطان والهدم والاستيلاء على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، ليس فقط كدعم للطلب الفلسطيني بل لاعتبار ذلك جزءا من مطالب وسياسة وأهداف الدول العربية.

يخطئ من يظن أن القضية الفلسطينية، هي قضية العرب الأولى، كما يخطئ من يظن أن الأزمة الليبية، على سبيل المثال، هي قضية العرب الأولى. فلا الأولى هي قضية الليبيين الأولى، ولا تلك هي قضية الفلسطينيين الأولى، ليس بالاختيار ولكن بالواقع.

إن نقطة الضعف الفلسطينية في غابة التشابك الدولية الحالية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تتصاعد كل يوم وكل ساعة، ليست من صنع إسرائيل، ولا الولايات المتحدة، بل هي من صنع الفلسطينيين أنفسهم، وهي نتيجة لتفرقهم واختلافهم وتحالفاتهم. وقبلت القيادات الفلسطينية بأن تكون تابعا عن أن تكون قائدا لقضية بلادها. أراحهم التفرج عن بُعد بدلا من الانغماس في قضيتهم الأولى.

كان على الفلسطينيين أن يتواجدوا في اجتماع المنامة ليقولوا لا لبيع أرضهم بحفنة من الدولارات، ويذهبوا إلى مؤتمر المبادرة الأميركية ليقولوا لا، بدلا من أن يقولها مندوب فرنسا أو روسيا.

لقد قال الرئيس محمود عباس لا وهو في مكتبه برام الله، وكررها في عواصم أخرى، وأهان المبادرة الظالمة لشعبنا، ولعن السفير الأميركي، ودعا لأن تذهب المبادرة الأميركية إلى جهنم، ولم يخف ولا وجل ولا هدّده أحد، لكن كان من الأجدر أن نقولها في المكان الصحيح وجها لوجه لمن وضع وكتب وأعلن تلك المبادرة الظالمة.

أسكرنا ادّعاؤنا بأننا أفشلنا مؤتمر المنامة، مع أننا لم نفعل. فقد اجتمع المدعوون وتحدثوا وقرروا، ووضعت تواريخ وأرقام، ووفق تعليق صحافي لمراسل متواجد لم يسأل أحد عن سبب غياب الفلسطينيين ولماذا، ولا طلب دعوتهم ولا توقف عن المشاركة، ووافق على أين ومتى سيتم الاجتماع القادم.

إذا لم يحترم الفلسطينيون ويقدروا مواقف ومصالح الدول العربية التي دعمت قضية شعبنا، وساهم مواطنوها في الدفاع عن حقوقنا منذ قرن من الزمن، وسالت دماؤهم على أرض فلسطين جنبا إلى جنب مع دم الشهداء الفلسطينيين، وإذا لم تتفهم الدول العربية الموقف الفلسطيني الذي يحتاج دعمهم وليس كلامهم، فإن أصوات تبادل الاتهامات جاهزة لتعيد التمسك بالتناقضات العربية الفلسطينية، ولسوف تعلو تلك الأصوات، التي بدأت بوادرها، على أصوات العقل والمنطق والصدق، ولن تستفيد منها سوى قوى الشر التي لا تريد خيرا للعرب والفلسطينيين بالذات.