ذلك اللجوء وهذا السرد

تحسين يقين.jpg
حجم الخط

تحسين يقين

لا نبالغ إن قلنا إن قضية اللجوء الفلسطيني كانت من العمق الإنساني الفلسطيني نفسياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، بحيث أثرت في مجمل النشاط الفلسطيني على مدار السنوات ما بعد عام 1948، في الوقت نفسه، كانت أكبر دافع للمقاومة بشتى أنواعها، خصوصاً المقاومة الثقافية.
لأجل ذلك، فإن قضية اللجوء تجلت بشكل حيوي ظل متجدداً في جميع مجالات الثقافة والفن، كون المكان بدلالاته، والزمان الذي رغم أن يمر وصولا لـ71عاما، إلا أنه لدى المثقف الفلسطيني، ظل في شكل ما من الإبداع مرتبطاً باللحظة التاريخية، والتي كل ما جاء بعدها كان له علاقة مباشرة، لما لتأثيرها الاجتماعي والنفسي في حياة الأفراد والأسر والجماعات والأطر السياسية.
شكلت النكبة، حتى قبل قيامها رسميا عام1948، وما زالت أكبر هاجس شعوري وفكري في السرديات الفلسطينية، وما زالت حتى الآن تلقي بظلالها على الرواية والقصة وعلى الدراما المسرحية والسينمائية والتلفزيونية؛ حيث أنه اختيار وغيره، لم يستطع الساردون والساردات الكتابة بمعزل عنها، لسبب بسيط وهو أن الفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم ما زالوا يعيشون نتائجها حتى الآن وغدا.
لم يخرج الروائيون/ات هنا عما هو كائن في السرديات الفلسطينية حول الزمان والمكان أيضا؛ حيث شكل الزمن التاريخي والسياسي عبر مرحلتي النكبة والنكسة، وما بعدهما من أحداث وصولاً للانتفاضة الأولى وما تلاها، حيث شكل ذلك خلفية لأحداث الروايات. كما تجلى أكثر من زمن أيضا قديم ووسيط، تم توظيفه لربط الماضي بالحاضر، حتى ولو كان الماضي بعيدا. وسيجد القراء ذلك مفصلا في الروايات الفلسطينية منذ النكبة حتى الآن.
إن الحديث عن المرأة والنكبة والرواية يحيلنا إلى أمرين هما:
•    ما روته الكاتبة-المرأة الروائية.
•    ما روي عنها كامرأة في كتابات الروائيين.
راوية-روائية
في "رواية الفراشة والأخطبوط" للشاعرة والروائية زينب حبش، وجدنا كيف تتعانق الأماكن: الضفة الغربية ومناطق 1948 والأزمنة المرتبطة بها، دحضا للرواية التي تحاول استلاب الفكر والذاكرة والأرواح، حيث أبدعت في جعل الشقة الصغيرة مسرحاً واقعياً وذهنياً لأبعد مدى في ظل التشويق الدائم، بالاستفادة من الروح البوليسية أيضاً. رواية توثيقية جرت أحداثها في بيت فلسطيني احتل للقبض على فدائي، كانت خلفية الوصف والسرد واستدعاء النكبة والشتات والأسلوب في إطار إنساني وجمالي. ان وجود الأسرة الأسيرة داخل الشقة، جعل الكاتبة وهي إحدى شخصيات الرواية ترجع الى حياة أسرتها السابقة في يافا، فظهر البيت طازجاً والذكريات، والسرور، حيث ربطت الكاتبة بين ما يحصل في الانتفاضة الأولى كنتيجة لاحتلال عام 1967، بنكبة عام 1948.
وهكذا فعلت ولكن بتقنية أخرى مشوقة ومدهشة، حينما جعلت الكاتبة ميرفت جمعة في روايتها "ماميلا" الزمنين يسيران معاً، بتواز وتقاطع أيضاً؛ حيث يرتبط مضمون الرواية بأسلوبها، من خلال استلهام التاريخ كحلم، من خلال صوتين يرويان من الماضي والحاضر، لا يهم من يبتدئ الكلام، ويتناوبان بل يلتحمان معا، حتى لكأن أحدهما فيما يرويه عن زمن إنما يروي عن زمن آخر، ماض عن حاضر، وحاضر عن ماض. فلا ندري هل يروي الأول (الشاهد) عن زمن (الغائب وزمنه)، أم العكس، أم أن هناك قصداً سحرياً من الرواية بأن تلتبس الأمور، لتشابه حال القدس تحت احتلال الغزاة. وهنا ثمن زمن وسيط وزمن الآن، لكن ما بينهما هو زمن سقوط القدس الأول عام 1948، والثاني سقوط ما تبقى عام 1967.
أما ديمة السمان فقد عادت لما قبل عام 1948، في القدس الانتدابية، في رواية "الضلع المفقود"، بحيث أعادت بناء الزمن الماضي في المكان الحالي-القدس، بل راحت تربط الأماكن ما بين الهند مثلاً وفلسطين، وكيف كانت العلاقات سابقاً، باعتبار القدس مركز جذب على أكثر من مستوى. كما ظهرت الحياة الاجتماعية والتي لعبت فيها المرأة دوراً مهماً.
في الرواية أربع شخصيات على التوالي، آمنة وعياش وعائشة ومريم، شكلت المرأة القدر الأكبر فيها: ولنبدأ بعياش: ابن سليم العطار الفلسطيني. عندما حصلت مشاكل في الحي انتقل إلى بلد أخواله للإقامة هناك خوف الضياع وسط الفوضى والصراعات الداخلية، وأقام في الهند، وأكثر ما غيّر إقامته هناك حب فتاة هندية "مريم" وصراعه بين عائشة ابنة خاله ومريم التي اختارها قلبه. وتتأزم الأمور في الهند نتيجة تلك العلاقة فيقرر جده وأهله هناك إعادته إلى القدس، فيعود ليجد فلسطين في صراع سياسي مع الانتداب البريطاني في فلسطين، ويواجه صراعاً اجتماعياً، ثم نتيجة نشاطه السياسي والنضالي في فلسطين تقرر حكومة الانتداب نفيه.
وهذا ما يؤكد أن النكبة كانت هاجساً على الفلسطينيين قبل أن تحدث، من حيث تخوفهم من الهجرات الصهيونية وبناء بنية الاحتلال على مدار سنوات الانتداب. 
في رواية "امرأة الرسالة" لرجاء بكرية، تروي لنا الكاتبة الأحداث القائمة خارج زمن النكبة، ولكن القارئ يجد أن النكبة تسكن الشخصيات كما تسكن الكاتبة، وقد أبدعت في تصوير أثر ذلك كله على  رسائل المرأة الإنسانة في الحب والنفس والصراع والوجود أيضا. بمعنى أن النكبة ما زالت قائمة حتى بالنسبة للفلسطينيين الباقين في فلسطين المحتلة عام 1948، وان المواطنة امر وهمي لا حقيقي.
ان استقراء أعمال روائية لروائيات فلسطينيات تناولن النكبة والشتات واللجوء، يظهر أثر ذلك على حياة المرأة في المخيمات والمنافي، حيث صورن الفضاء الخاص للنساء ومعاناتهن، ومنهن حزامة حبايب في عملها الروائي "مخمل" التي عرت واقع المخيم، الذي يتستر خلف الشعارات الوطنية والسياسية، حيث انحازت حبايب لهموم البشر وصراعهم الصعب من اجل البقاء.
وهي من خلال شخصية “حوّا”، وشخصيّات أخرى، وصفت حياة المخيّم الفلسطيني على من خلال التفاصيل، على نحو كان صادما. وكل ذلك يعني ان النكبة ما زالت حاضرة بقوة اجتماعيا ونفسيا.
من الأمثلة على ذلك، "العذراء والقرية"، التي كان الزمن الحاضر فيها هو الفترة الزمنية بين النكبة عام 1948 والنكسة عام 1967، لكن ذلك لم يمنع من الرجوع إلى ما قبل النكبة، خصوصا فيما تعلق باللاجئين إلى مكان الرواية الجديد، حيث يرجع الراجع إلى حيفا الثلاثينيات والأربعينيات.
كذلك رجع الروائي، بقصد إسقاط الماضي على الحاضر، إلى العصر الوسيط، أي فترة الحروب الإفرنجية، كأنه يكمل الدائرة، مفسرا حالة الاستلاب وأن شخصيات التاريخ العربي ليست نقية تماما ولا بريئة. 
وقد ظهرت المرأة بشكل خاص في المرأة الحيفاوية اللاجئة التي تعيد بناء البيت/الوطن في مكان اللجوء على أرض ما تبقى من الوطن، أي في الضفة الغربية.
وقد كانت زوجة حسن وهو أحد مناضلي حيفا إيجابية في البقاء، حتى أنها وزوجها يقومان بتعمير ارض حجرية صعبة لتسويتها للزراعة، بما يدل على البقاء والأمل.
كذلك سلك الروائي صافي صافي في روايته "اليسيرة" في اختيار زمن ما قبل النكبة، ثم لنراه يغوص في الزمن الحضاري البعيد. لقد عاد إلى ماضي القرية المدمرة، ثم اقتبس شيئا من العهد القديم، ليكمل الدائرة، وكأنه يرى تكرار الأحداث عبر شخصيات جديدة، حيث قدّم الكاتب في روايته "اليسيرة" وصفاً أدبياً لأسباب الهزيمة، من خلال نقد الماضي، عبر وصف رحلة الفلسطيني من القبول المطلق إلى الشك النسبي، موجها سهام نقده للخرافات والخزعبلات التي كانت سائدة. ولم تغب النساء عن المشهد بل كانت متسيدة للمشهد كما الرجل.
يظهر الروائي هنا حياة قرية قبل عام 1948، وما احتوته من ايجابيات الانفتاح على الحضارات القديمة التي مرت هنا، وما بين ما علق من أوهام وتقاليد بالية ظهرت في زمن التخلف.
انه اللجوء، القضية الدائمة، التي لا تتقادم، ولذلك سيظل هذا السرد متواصلاً.