تنتابني في هذه الفترة، موجة لا تتوقف من القلق الشديد، تتحول في كثير من الأحيان إلى كوابيس لا يفسرها سوى الواقع المرير الذي تمر به القضية الفلسطينية وأهلها، خصوصاً الجيل الذي أنتمي إليه، وكان قدره أن يفجر مرحلة الثورة المعاصرة. أغلب هذه الكوابيس هي عبارة عن فوبيا السقوط من مرتفعات عالية، على هوّة سحيقة، لا قاع لها، ولا تدرك إن كانت مياهاً أم فراغاً متنافي الأطراف.
غزة بعد أن ودعت سريعاً أحلام الاسترخاء، واستنشاق هواء ينطوي على قدر أفضل من النقاء ولسعة برد خفيفة، عادت لتعيش أجواء التهديدات وارتفاع أصوات دقات طبول الحرب.
أوهام في أوهام كانت الضجة التي انخرط فيها مسؤولون وإعلاميون، ونشطاء، بشأن مفاوضات غير مباشرة، بين حماس وإسرائيل، تؤدي إلى الإفراج عن قطاع غزة المختنق مقابل هدنة طويلة.
كان لا بد أن يدرك الجميع، العجم والعرب، والافرنج أن صفقة كهذه ما كان لها أن تتم، فلا إسرائيل تقبل بأية تعهدات أو ضمانات، دون قرار إعدام مدخرات المقاومة، ولا حماس وأخواتها مستعدة لأن توافق تحت أي ظرف على مثل هذا القرار.
الضجة لم تخلف سوى المزيد من العداوات، والاتهامات المتبادلة وتعميق ازمة الثقة بين طرفي معادلة الانقسام الفلسطيني وفي النهاية فإن إسرائيل ستقوم بما تفرضه عليها قدراتها لفرض أهدافها ومخططاتها الخبيثة والتي باتت معروفة للقاصي والداني، ولا ضرورة للتذكير.
الآن دخلنا مرحلة خلق وتضخيم الذرائع، التي تريدها إسرائيل كمقدمات لشن حربها الجديدة، حيث أخذت تنشط التوغلات، واطلاق النار على المزارعين والاعتداء الدائم على الصيادين ومراكبهم، فيما يشتد الحصار، وتتصاعد، التهديدات باستهداف رؤوس العمل السياسي، الذين تعتقد إسرائيل أنهم يختفون وقت الحرب في أنفاق تحت مستشفى الشفاء، في القطاع.
الضائقة المعيشية بدأت تظهر، بما جرى لصاحب روتس الغلابة، وبائع قهوة في الشجاعية، بينما تشتعل صفحات التواصل الاجتماعي، بالتعريض والتحريض، وكل أنواع الدراما السوداء.
تشكو الأمر لبعض من يهاتفونك في الضفة، وليس من بينهم مسؤول واحد، فيقول بمرارة إن الأحوال ليست بأفضل، وربما كان هذا ما دعا اللواء عضو اللجنة المركزية لحركة فتح توفيق الطيراوي لأن يدعو الرئيس لزيارة نابلس والتعرف إلى هموم المواطنين.
لا نتحدث عن المعروف من قبل الاحتلال، وممارساته وأطماعه في الضفة، ولكننا نتحدث عن الضحية، عن العامل الذاتي الفلسطيني المنشغل هذه الأيام في ضجة أخرى تتصل بالإجراء الخاص باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمجلس الوطني.
نعلم أن المنظمة وحركة فتح، لم يتعرفا إلى موقع نائب الرئيس، ولكن قبل استشهاده كان معروفاً للجميع أن أبو جهاد الوزير كان الرجل الثاني في حركة فتح، وأن فاروق القدومي كان الرجل الثاني في المنظمة.
بعد اوسلو وخلال مرحلتها، كان معروفاً أن الرئيس محمود عباس هو الرجل الثاني في فتح وفي المنظمة، ولم يكن أحد لينازعه موقعاً اكتسبه بشرعية البدايات، فكان من السهل اشغال موقع الرئيس في الحركة والمنظمة، والسلطة، عبر انتخابات حسمت لصالح الرئيس عباس مطلع العام 2005، بعد استشهاد الزعيم عرفات.
المشكلة الآن، أن لا النظام الأساسي للمنظمة ولا النظام الأساسي للسلطة يقدم حلاً عند شغور موقع الرئيس، نعلم بأن النظام الأساسي للسلطة يعطي الحق أوتوماتيكياً لرئيس المجلس التشريعي، ولكن قد أصبح هذا مستحيلاً في ضوء مجريات ووقائع الحدث الفلسطيني، الذي قدم أغلبية لحماس في التشريعي، في ظل رئيس من حركة فتح، وفي ضوء الانقسام الجاري، ما يعني أن هذا النظام من أساسه كان بحاجة إلى تطوير وتعديل بما يضمن تجاوز عقبات كهذه متوقعة في ظل استمرار الاحتلال.
ما يجري الآن هو محاولة لتكييف القانون، وتحضير البدائل لمرحلة ما بعد استقالة الرئيس عباس، خلال فترة زمنية قصيرة جداً، ودون مقدمات وبعيداً عن توافق وطني غير ممكن التحقق، وانتخابات تحول دون إجرائها عوامل كثيرة. لا أصدق أن دعوة المجلس الوطني للانعقاد، وهو لن يتمكن من الانعقاد بنصاب، ما يبرر جلسة استثنائية، على أنه يستهدف تجديد قيادة منظمة التحرير، ولا حتى إبعاد خصوم معارضين لم نعرف منهم حتى الآن سوى، ياسر عبد ربه. صحيح أن عدداً من أعضاء اللجنة التنفيذية يعاني من مرض أو من شيخوخة، أو من غياب طويل، فبعض أعضاء اللجنة غير معروفين حتى لمن يتابعون عن كثب الوضع السياسي الفلسطيني، ولا نريد أن نضيف على هؤلاء، أكثر من قائد اسمه علي اسحق وآخر الدكتور أسعد عبد الرحمن.
ولا أصدق، أيضاً، ما يقال عن أن الرئيس يريد أن يعزز سيطرته على اللجنة التنفيذية، فسلطته عليها غير منقوصة، بل ان اللجنة التنفيذية في واقعها الراهن، هي أفضل ما يريده رئيس لفرض سياساته ومواقفه ورؤاه.
القصة إذا تتمحور حول الأعضاء الخمسة الذين يمثلون حركة فتح، وسيكون من بينهم المرشح للرئاسة القادمة والأمر تحديداً مقتصر على مقعدين على الأقل مقعد فاروق القدومي، وربما مقعد الدكتور زكريا الاغا.
ما يتم في اللجنة التنفيذية، لا يمكن استكماله إلاّ بانعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح، التي ستنتخب لجنة مركزية جديدة، سيكون من بين أعضائها المرشحان الاثنان للجنة التنفيذية.
عدا ذلك فإن هذه الخطوات لا يمكن فهمها دون مراقبة التغييرات التي تجري على جسم السلطة وأجهزتها المختلفة.
كل هذا يحصل، وسينجح الرئيس في تحقيق ما يفكر فيه، بغض النظر عن كل الاعتراضات، سواء من خارج المنظمة أو من داخلها، ومن أي طرف، جاءت حتى لو كان بعضها من داخل حركة فتح ولكن الأمر سيكون مختلفاً بعد ذلك. لست قارئ فنجان ولست منجماً، فما يتوفر من خبرة العقود، يقول إن النجاح قد يكون هو بداية الفشل الذريع، الذي قد يؤدي إلى تفكك السلطة وانهيارها، وتراجع دور ومكانة منظمة التحرير، وقدرتها على الإمساك بكونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
حماس ستجد في هذا الذي يجري، مبرراً للذهاب منفردة إلى خطوات، توسع الهوّة، بينها وبين حركة فتح، والآخرون غير الفلسطينيين سيجدون المزيد من المبررات، للتهرب من التزاماتهم تجاه القضية والشعب الفلسطيني.
الأهم والأخطر، وهو ما لا نتمناه، هو أن تتوه حركة فتح في صراعات داخلية لا يمكن السيطرة عليها، أو أن تدخل في عراك واشتباك مع السلطة وأجهزتها الأمنية والمدنية ما سيؤدي إلى انتشار وتعميم الفوضى في الضفة الغربية، والتي تظهر ملامحها بين الحين والآخر في أكثر من مدينة ومخيم خارج مدينة رام الله، التي تخضع لسيطرة محكمة.
على كل حال الرئيس مدين لشعبه بأن يشرح لهم بصدق أبعاد الجاري وأهدافه، وأن يقدم له ما يدعوه للاطمئنان على المستقبل، فهل لديه ما يخفف كل هذه الكوابيس؟