استقال غرينبلات... فهل انتهت صفقة القرن؟!

حجم الخط

عاطف أبو سيف

من المؤكد أن استقالة جيسون غرينبلات، المستشار الكبير لترامب، شكل صفعة قوية لجهود الرئيس الأميركي الهادفة إلى فرض صفقة تسوية في الشرق الأوسط، يأمل من خلالها إنهاء الصراع في المنطقة على قاعدة أن يقبل الجميع بوجود إسرائيل ونسيان الحقوق الوطنية الفلسطينية. هذه الجهود التي شكل غرينبلات أحد أهم نشطائها والعاملين على تحقيقها، قطعت أشواطاً يصعب التحقق منها، إلا أنها كانت دائماً بين مد وجزر، وبين رفض ورفض خجل باستثناء الرفض الفلسطيني القاطع الذي يشكل حجر الزاوية في إفشال الصفقة والتسوية المرغوبة. وبترك غرينبلات المشهد واعتزاله المنصب الرفيع الذي نقله من مجرد مواطن إلى سياسي عالمي من الصف الأول، دون أن يكون لذلك قيمة معيارية بقدر ما هو توصيف وظيفي ليس أكثر، فإن الصفقة التي باتت تعرف بصفقة القرن أيضاً بدورها لا بد أن تكون قد تعرضت على الأقل لهزيمة معنوية من نوع ما، حيث إن المستشار الكبير كان أبرز عرابيها وأكثر من يتحدث عنها، بل إن السيد غرينبلات بات يعمل منذ توليه المهمة ناشطاً على السوشيال ميديا، مهمته تبرير أعمال القتل الإسرائيلية بحق الفلسطينيين العزل، ومهاجمة كل نشاط فلسطيني سياسي أو ميداني، وفجأة فتحت قريحته على الشتم والردح والتهجم على القيادة الفلسطينية التي واجهت بعناد مشروع التصفية المسماة صفقة القرن. برحيل غرينبلات فإن صورة أخرى لا بد أن تظهر.
ومع هذا، وعلى أهمية السابق، يظل السؤال الأبرز إذا كان غرينبلات قد رحل، فهل رحلت صفقة القرن؟ لا يمكن للإجابة أن تستقيم دون فهم حقيقي لطبيعة صفقة ترامب وارتباط الأخير بالصفقة. فرحيل الرجل الذي لم يكن أكثر من بوق من أبواق الصفقة لا يمكن أن يكون نهاية لها، فالصفقة مرتبطة برؤية كبيرة يقودها ترامب وتدعمها الصهيونية وحلفاء إسرائيل في بلاد العم سام من أجل الضغط على العرب لإنهاء الصراع الذي لم يبدؤوه، بل ظهر مع ظهور إسرائيل وسرقة التراب الوطني الفلسطيني وما تم بحق الفلسطينيين من مذابح ومهالك. والأمر كذلك فإن العمل الفلسطيني يجب أن يتواصل من أجل منع الصفقة من أن تصبح واقعاً وحقيقة، وهذا يتطلب مواصلة ليس الرفض فحسب، بل الضغط في كل اتجاهات الأرض الأربعة لإفشال الصفقة. لا أحد يستطيع أن يفرض شيئاً على الشعب الفلسطيني. لا توجد قوة على وجه الأرض يمكن لها أن تخرج القلم الفلسطيني من غمده وتجعله يوقّع. هذه حقيقة لا يمكن الشك فيها، وهذا مصدر المطالب القائلة: إن الوحدة الوطنية عامل أساس في إفشال الصفقة؛ حيث يتم توحيد الجهود والطاقات الفلسطينية من أجل تثوير حالة الرفض. علينا أن نواصل النضال لجعل الصفقة نسياً منسياً، ويجب عدم النظر إلى ما تم على أنه نهاية الطريق وإن كان بداية نهايتها.
فاستقالة العراب الكبير للصفقة أو التسوية التي يراد لها أن تفرض على الشعب الفلسطيني لا تعني نهاية الصفقة. هذا أمر لا بد من التأكد منه والعمل وفقه دون التقليل منه. فاستقالة غرينبلات يشكل ضربة قوية لمن يعمل على تحقيقها، وعلى أقل تقدير فهي هزيمة أخلاقية ومعنوية تصيب الآخرين في مقتل. فالصفقة خسرت واحداً من أهم داعميها. الرجل الذي نذر سنوات عمره الثلاث الماضية في الترويج لها، وربما أمضي في الحديث عنها أكثر مما أمضاه في الحديث عن حياته أو عائلته. وربما لم يستفد من كل هذا إلا حكمة صغيرة قالها الأجداد فيما مضى لكنه لم يعرفها من قبل: إن إرادة الشعوب لا تقاوم.
وعليه فإن النضال الفلسطيني لتحويل الصفقة إلى ركام من ركام الماضي يجب أن يتواصل، لأن عرابي الصفقة الآخرين بعد أن شعروا بالخذلان لا بد أن يعملوا جاهدين من أجل دفعها للأمام بغية تجاوز الصدمة التي أصابتهم وتحقيق انتصار لو صغير يرضي غرورهم. لاحظوا كيف بادر نتنياهو مباشرة بالحديث عن أن التطبيع مع الدول العربية يسير بوتيرة مرضية وأن ثمة علاقات لإسرائيل تنمو وتتطور مع بعض الدول العربية. وفي الحقيقة فإن ما قاله فيه الكثير من الصدق، لكن هذا غير مرتبط بالصفقة والحديث عنه لا علاقة له باستقالة غرينبلات، فإسرائيل تنعم بعلاقات سرية مع الكثير من البلدان العربية، وهذا أمر مؤسف وثمة علاقات متعددة المستويات مع دول كثيرة في المحيط.
ما أقصده أن العمل على تنفيذ صفقة القرن لن يتوقف بل ربما سيتسارع. الأمر مرتبط بإنجاح مشروع كبير لا يمكن لاستقال مسؤول كبير أن توقفه. فالسيد غرينبلات موظف ويمكن الاستفادة من خدمات آخرين من أجل إنجاح الصفقة وسيكونون أكثر وفاء منه، حيث سيمضون ساعات أكثر على «تويتر» يهاجمون الفلسطينيين «على الطلعة وعلى النزلة». الأمر الأهم أن يتواصل الزخم لفرض الصفقة التي لن تنجح طالما بقي الفلسطينيون متمسكين بمواقفهم.
فترامب ينظر للصفقة على أنها الفكرة الأساسية التي جاء بها لعالم علاقات أميركا الخارجية. صحيح أن الصفقة غير واضحة المعالم، وصحيح أن السيد ترامب، ربما هو نفسه، لا يعرف ما هي الصفقة، لكنه يعرف ماذا يريد منها، وهذا أساس المنطق التجاري: تحقيق الربح، لكنه سيواصل الدفع من أجل إنفاذها. الأمر نفسه بالنسبة لنتنياهو الذي شكلت الصفقة خلال العامين الماضيين مخرجاً مناسباً له حتى لا يبدو متهرباً من عملية السلام غير الموجودة، فطرح ترامب قدم له ورقة اعتذار مذيلة بكل آيات الاحترام والتقدير لقبوله الصفقة غير الموجودة. وعليه فإن العمل على تحقيق الصفقة وإنفاذها لن يتوقف. ومع هذا فإن الصفقة ستواصل الانهيار رغم كل ما يتم ضخه فيها من دماء ووعود؛ لأن الأساس الأخلاقي لها، غير الموجود أصلاً بالنسبة لنا وللآخرين، بدأ يتداعى. وسقط غرينبلات وستسقط الصفقة.