عن النيوليبرالية

حجم الخط

عبد الغني سلامة

مع العولمة السريعة للاقتصاد الرأسمالي، ومع ظهور وتفاقم العديد من الأزمات الاقتصادية، بدأنا منذ بضعة عقود نشهد ما يسمى الليبرالية الجديدة، والتي أخذت تنتشر على نطاق عالمي.
«الليبرالية الجديدة» (النيوليبرالية)، مصطلح يحوي حمولات سياسية يسارية، غالباً ما يُستخدم من قبل منتقدي الرأسمالية، كوصمة واتهام، أكثر منه كمفهوم لنظرية اقتصادية أو سياسية. وهي عملياً: الحد من تدخل الدولة في الاقتصاد المحلي، من خلال تخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة، مثل التعليم والرعاية الصحية، والرفاه الاجتماعي، والإنفاق على البنية التحتية.. وخصخصة القطاع العام، وتبني كامل لسياسات السوق دون أي دور يذكر للدولة.
وتقوم النيوليبرالية على تفعيل قانون السوق، وتحرير المقاولة الخاصة من الضرائب، ورفع الرقابة على الأسعار، وإطلاق حرية كاملة لحركة رؤوس الأموال والبضائع والخدمات، ورفع القيود عن التجارة، عبر تقليص القيد الحكومي على كل ما يمكن أن يضر بالأرباح، بما في ذلك مستلزمات حماية البيئة، أو السلامة العامة، أو دور الدولة في حماية المستهلك، وشروط ظروف العمل. ثم تأتي الخصخصة، أي بيع الشركات والمؤسسات التابعة للدولة للمستثمرين، وهذا يشمل المصارف والصناعات الرئيسية، والنقل العام، والكهرباء، والمدارس، والمستشفيات، والمياه، وحتى الخدمات الأمنية. وهذا يتم بذريعة تعظيم الكفاءة وتحسين الإنتاجية.. لكن أبرز تأثير للخصخصة هو تركيز الثروة في أيدي قلة من الناس، وجعل الجماهير تدفع أكثر للحصول على احتياجاتها. وهذا يعني القضاء على مفهوم «المصلحة العامة»، واستبداله بـ»المسؤولية الفردية»، والضغط على الفقراء لإيجاد حلول لفقرهم، للمساهمة في الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي من تلقاء أنفسهم.
وعلى الصعيد الدولي تجلت النيوليبرالية في الدعوة إلى تحرير التجارة العالمية، وإزالة الحواجز الجمركية والعوائق الإدارية الأخرى أمام التدفقات السلعية والمالية، وقد تأسست «منظمة التجارة العالمية» لتكون بمثابة «المدير» الصارم المشرف على التزام الدول بمبادئ التجارة الحرة.  
حتى بدايات القرن العشرين، كانت «الليبرالية الاقتصادية» هي السائدة في الولايات المتحدة. وفي فترة الكساد العظيم (1929)، صاغ «جون كينز»، الخبير الاقتصادي البريطاني، نظرية مفادها: أن الليبرالية ليست دائماً أفضل سياسة للرأسماليين، وتبنى مبدأ الاقتصاد المختلط، الذي يعتمد على السوق الحرة، وعلى تدخل الدولة في بعض المجالات أيضاً.
وفي السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد في معظم الدول محكوماً بأطر تنظيمية متمركزة حول الدولة نفسها، وعلى الرغم من سيادة نظام السوق في ذلك الوقت، فحتى الدول التي بنت اقتصادها على مبدأ السوق الحر اعتمدت في تلك المرحلة أنظمة رفاه اجتماعي «كينزية».. وبعدها، أخذت «النيوليبرالية» تشق طريقها كمنظومة فكرية، تحت تأثير الحرب الباردة، التي تجلت على المستوى الأيديولوجي كصراع بين اقتصادات السوق الغربية من جهة، واقتصاد التخطيط المركزي الموجه في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية.
لفترات طويلة، أساءت الحكومات الغربية استخدام أفكار «كينز»، بشأن مدى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، حيث ألقت على كاهل الدولة مهام الرعاية الاجتماعية كاملة، بأعباء تفوق طاقتها على التحمل، فشلّت عملية النمو الاقتصادي، وارتفعت الأسعار، وتفاقم التضخم. وهذا أدى إلى بدء عمليات ارتداد على السياسات «الكينزية»، وإلى عزوف الدولة عن دورها النشط في الاقتصاد، بحجة إفراطها في الإنفاق العام والخدمات العامة التي تقدمها للفئات الفقيرة والمتوسطة، وانتشرت عمليات الخصخصة على نطاق واسع، وغدت توصيات صندوق النقد الدولي في هذا الخصوص ملزمة للعديد من الدول.
وفي السبعينيات، تبنت إدارة كارتر في أميركا، وحكومة  كالاهان في بريطانيا ذلك النهج الليبرالي الجديد. وبعد وصول «تاتشر» و»ريغان» إلى السلطة، سرعان ما أصبَحا عرّابي النيوليبرالية الجديدة، التي عملت على خفض الضرائب على الأثرياء بشكل مذهل، وتقليص الإنفاق العام، وإضعاف الاتحادات والنقابات العمالية، وخصخصة الخدمات والأنشطة الحكومية.
وإذا كانت الرأسمالية تعمل في ظل قوانين الدولة وتحت رعايتها، فإن النيوليبرالية تعمل فوق الدولة، أو بديلاً عنها. ما يؤدي إلى تركز السلطة والمال بيد فئة محدودة، وتحويل البشر والبيئة إلى مجرد موارد للثراء، يتم استغلالهم بلا رحمة.
والنيوليبرالية هي الاستعمار الجديد للشعوب، ليس لأنها تستغل النكبات والكوارث الاقتصادية التي تصيب المجتمعات والدول وحسب، بل لأنه يجري فرضها الآن في معظم أنحاء العالم، من قبل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. بحيث تلغي برامج الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية، وتتنصل من حقوق العمال. ولأنها سياسات اقتصادية تضر الطبقات الوسطى والضعيفة في المجتمع، وتأتي لخدمة أقلية صغيرة ومحدودة، تمثلها طبقة كبار الأثرياء.
وقد تسببت النيوليبرالية في معظم المصائب التي حاقت بالبشرية خلال العقود الأخيرة، من انهيارات مالية، وكوارث اجتماعية.. مثل الأزمة المالية العالمية 2007-2008، وتداعياتها الخطيرة، كالغلاء، والبطالة، وهبوط مستويات الصحة العامة وتفشّي الأوبئة في بعض البلدان، وانخفاض جودة التعليم، وتنامي ظاهرة عمل الأطفال، وذيوع الإحساس بالغربة الاجتماعية، حتى أضحت الانعزالية سمة عصر التطور والتكنولوجيا، وقلَّت التفاعلات الإنسانية.. ناهيك عن اختلال الأنظمة البيئية جرّاء التلوث وانبعاثات السموم.. وحتى صعود اليمين، وقوى التطرف، والشعبويين، أمثال ترامب.
وتلائم النيوليبرالية كبار الرأسماليين، وتُشرَّعِن سُلطانهم؛ بحيث يستغل هؤلاء «الحرية» الممنوحة لهم، للتحرر من القوانين، بما في ذلك حُرية تلويث المصادر الطبيعية، أو إزالة إجراءات الحماية الاجتماعية والوقاية البيئية، أو عدم إتباع قواعد السلامة المهنية للعمال.
وقد أدت النيوليبرالية إلى تفكيك مؤسسات الدول في العالم الثالث، وتمزيق حدودها الاقتصادية وإفقار الملايين من الناس. وخلقت الكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات النامية، التي فُرضت عليها هذه السياسات. كما حدث في الأرجنتين مثلا، أثناء رئاسة كارلوس منعم، الذي اتبع مبدأ الصدمة، من خلال تسريح مئات الألوف من الموظفين، والخصخصة الواسعة التي شملت قطاعات النفط والبنوك والخطوط الجوية، الأمر الذي أنتج فقاعة اقتصادية مؤقتة، أعقبها أكبر إفلاس مالي شهدته البلاد، ترتبت عليه آثار اجتماعية وإنسانية وخيمة.     
وكما حدث في المكسيك وتشيلي، حيث انهارت فيها الأجور إلى النصف، ثم ارتفعت تكاليف المعيشة، ما أدى إلى إفلاس آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة، وخصخصة الشركات التابعة للدولة. وما فرضته أميركا على العراق، وتفرضه الآن على فنزويلا. 
 
* من دراسة بحثية منشورة لي، في «قضايا إسرائيلية»، العدد 74.