عن اليسار العربي والفلسطيني (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

بعض القوى (المحسوبة مجازيا على اليسار، أي تلك التي سمت نفسها تقدمية، مقابل المسماة رجعية) نجحت في الوصول للسلطة كـ(حزبي البعث في العراق وسورية، وعبد الناصر في مصر، بورقيبة في تونس، اليمن الجنوبي)، لكنها أخفقت في بناء نموذج دولة ناجح، وتحولت إلى أنظمة شمولية عسكرية.. ومن ناحية أخرى، تلقت الأحزاب اليسارية الجماهيرية ضربات أمنية شديدة في العراق ومصر وإيران وغيرها.. أنهكتها إلى حد كبير.
ولم تكن أزمة اليسار العربي بسبب المضايقات الأمنية بقدر ما كانت لأسباب ذاتية؛ فقد اقترفت الأحزاب اليسارية العربية سلسلة من الأخطاء الفادحة، أبرزها التبعية الآلية تجاه المركز السوفييتي، كما لو أنَّه «فاتيكان» للعقيدة الماركسية، وفقا للمقولة الرائجة حينها (يرفعون المظلة في عدن إذا أمطرت في موسكو).. فضلا عن خطابها النخبوي المفارق للواقع.. وفيما بعد بدأت تظهر ممارسات غير مفهومة؛ مثلا تحالف قوى يسارية مع جماعات الإسلام السياسي (لمكاسب حزبية وانتخابية)، وآخرون تحالفوا مع الإمبريالية لمواجهة «خطر» الإسلام السياسي.. وقوى يسارية انضمت للسلطات الحاكمة، مقابل تغاضيها عن القضايا الاجتماعية (المرأة، الحريات، الحقوق المدنية..)، حتى أن قيادات يسارية بدأت تحج وتعتمر.. وهذا التناقض يمكن تشبيهه بالسيارة التي تعطي «غماز» لليسار، فيما تصطف على اليمين!
وفي المحصلة، اختفت عناصر الافتراق والاختلاف بين اليسار واليمين، وأصبح من الصعب تعريف اليسار، أو العثور على قسمات واضحة ومحددة له.
في فلسطين، يمكن القول إنّ أزمة اليسار الفلسطيني متأصلة في تكوينه، ولم يكن مصدرها التغيّرات السياسية المرحلية (إقليميا ودوليا) وحسب. فأسباب الأزمة ليس بسبب انخراط الجبهات الفلسطينية في واقع أوسلو، ولا نتيجة الانهيار السوفييتي، ولا بسبب صعود الإسلام السياسي، ولا لغيرها من الأسباب التي نروجها بسهولة، مع أنها أسباب وجيهة ومنطقية. في الأساس لم ينشأ اليسار الفلسطيني من باطن الصراعات الداخلية والطبقية للمجتمع الفلسطيني، إنما جاء لمواجهة المشروع الصهيوني الإمبريالي الذي يستهدف الوجود الفلسطيني بكليته. وهذا النشوء يغيب عنه التحليل الاجتماعي والصراع الطبقي كمكونين أساسيين للفكر اليساري. وهو تكوّن غير طبيعي، ومأزوم أساسا، يتطلّب اجتهاداً استثنائياً لتقديم قراءة اجتماعية سياسية للصراع الوطني وطرح تصوّر يساري للتحرير، يتقدّم على الأطروحات القومية والوطنية التي مثلتها «فتح». لكنّه اجتهاد لم يتحقق حتى الآن.
أبرز تنظيمات اليسار الفلسطيني: الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحزب الشعب، ويمكن إضافة بقية الفصائل التي انشقت عنها، أو نشأت على هامشها.. تلك القوى نشأت بعد النكبة (باستثناء الحزب الشيوعي)، وكانت في بداياتها تمثل الفكر القومي (الجبهة الشعبية انبثقت عن حركة القوميين العرب)، وتلك الجبهات انطلقت بقوة الدفع التي مثلتها «فتح»، ونمت على هامشها، وأحيانا بدعم منها.. ففي ذلك الزمن سطع نجم «الفدائية» والكفاح المسلح، وصار ممكنا بل وضروريا مواجهة المشروع الصهيوني بأدوات وقوى فلسطينية، بعد أن كانت الفعاليات والقوى الفلسطينية ملحقة وتابعة لأحزاب عربية.. لكن هيمنة المد السوفييتي (اليساري) على حركات التحرر في العالم جعل تلك القوى الناهضة تنحاز للسوفييت، وتطلب دعمهم.. وبالتالي تتبنى الأفكار الماركسية واليسارية في برامجها وشعاراتها.. وربما جاء الانشقاق الأول عن الجبهة الشعبية وتأسيس الجبهة الديمقراطية على خلفية التناقض الفكري، ومحاولة تخليص «الشعبية» من الأفكار القومية لصالح الأيديولوجية الماركسية.
ولكن، إلى أي مدى كان هذا التوجه صائبا، وضروريا؟
ما حدث في النكبة حينها، وما زال فاعلا لليوم؛ تحطيم بنية وترتيب المجتمع الطبقي والاجتماعي الفلسطيني. فالنكبة أدت إلى انهيار المنظومة المجتمعية ومعها مراكز القوى الداخلية، كما دمّرت الحياة المدنية والريفية على حدٍ سواء، ومن ثم ذَوّب اللجوء الانتماء الطبقي.. وأفرز طبقة جديدة غير معروفة في الأدبيات اللينينية والماركسية، هي طبقة اللاجئين.
هذا الواقع الجديد كان يعني ببساطة شديدة أن أزمة المجتمع الفلسطيني صارت أزمة وجود وطني، وأزمة سياسية تهدد الكيان الفلسطيني برمته، وتنذر باقتلاعه.. وهذا يعني أن المرحلة يجب أن تكون بالضرورة مرحلة تحرر وطني، وليس تحررا طبقيا ولا اجتماعيا.. لذلك، لم يكن أمام اليسار من فرصة للاستمرار وكسب التأييد الجماهيري إلا من خلال ممارسته للكفاح ضد المشروع الصهيوني.. وبالذات الكفاح المسلح الذي كان سمة ذلك العصر، ومن أهم ضروراته.
لم تتعرض الجبهات اليسارية الفلسطينية للمضايقات والضغوط والقمع الذي عانت منه أحزاب اليسار في دول المنطقة، بل تلقت دعما وتمويلا من منظمة التحرير، كما وفرت البيئة الدولية (المنظومة الاشتراكية) مناخا مناسبا لنموها.
وقد بات أمام جبهة اليسار مهمتان متداخلتان: الأولى الكفاح في سياق التحرر الوطني، والثانية النضال الاجتماعي في سياق الدور التقليدي لليسار، وهذه المهمة كانت غامضة وغير ملحة في فترة ما قبل أوسلو.. بعد تأسيس السلطة الوطنية، ومع رافق ذلك من تغييرات جوهرية في بنية النظام السياسي الدولي والإقليمي، وتوقف الكفاح المسلح لأسباب موضوعية، صار ممكنا لليسار أن يناضل في إطار المهمة الثانية: أي ترسيخ نمط الدولة المستجيبة لمصالح الفئات الاجتماعية التي يمثلها اليسار، أي الفئات الكادحة، والتزامها بالديمقراطية بمفهومها الشمولي: أي ليس فقط بمفهوم الديمقراطية السياسية وتداول السلطة السلمي والانتخابات، وفصل السلطات، وترسيخ الحريات؛ بل والديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية، أي حقوق المواطنة، والتعليم، والرعاية الصحية، والضمان الاجتماعي، والأجور، والغلاء، وحقوق العمال والموظفين، والأمومة، وقضايا المرأة.
ما حدث فعليا، أن القوى اليسارية أخفقت في تحقيق أهدافها.. وربما كانت أزمتها جزءاً أساسيا من أزمة السلطة والمشروع الوطني ككل، وهذا ليس بسبب تراجعها في الكفاح الوطني ضد الاحتلال، بل في إطارها الذاتي؛ فهي حتى لم تمارس الديمقراطية في بناها التنظيمية، وقد أصابها التكلس والوهن، وانغمست في مشروع السلطة، وفي الإطار الاجتماعي تقاعصت، بل وتماهت مع الموروث الشعبي القبلي، بعض رموزها تماهى مع الدور الجديد للمنظمات غير الحكومية.. وآخرون انقلبوا على علمانيتهم.. وغيرهم صب كل تركيزه على تصفية حساباته مع «فتح»، وعمل على إضعافها.
اليوم، المبرران الوحيدان اللذان يمكنهما منح اليسار عناصر القوة والبقاء والاستمرار، هما: استئناف الكفاح ضد الاحتلال، والنضال الاجتماعي، برؤية وبرنامج جديدين. بعد عقود من الركود والتكلس والضعف.. والاقتناع بسقوط شعارات «المركزية الديمقراطية»، و»توطين الماركسية»، و»الصراع الطبقي»، و»يوتوبيا الاشتراكية».
ولا يكفي أن يقتات اليسار على إرثه النضالي، وسمعة القادة التاريخيين.. وهذا ينطبق بدرجة كبيرة على «فتح» أيضا.