أزمة شركة الكهرباء.. علاج أخلاقي وقانوني

عبد الناصر النجار.jpg
حجم الخط

عبد الناصر النجار

قبل سبع سنوات قطعت شركة الكهرباء القطرية التابعة لدولة الاحتلال الكهرباء عن قرى في منطقة الجفتلك بالأغوار بذريعة تراكم الديون.
شخصية متضررة من القطع دعت مجموعة من الصحافيين وممثلين عن سلطة الطاقة وشركة الكهرباء ومحافظة أريحا، إلى لقاء للاطلاع على أسباب المشكلة وإيجاد حل لها، وحينها تبين أن كثيراً من العائلات لا علاقة لها بثقافة الدفع، وأن البعض يمد وصلات غير قانونية خاصة أن الشبكة متهالكة.
مجموعة من ممثلي المنطقة العقلاء والأهالي تفهموا خطورة الوضع ووافقوا على تركيب عدادات الدفع المسبق شرط أن تقوم سلطة الطاقة وشركة الكهرباء بتحديث الشبكة وتأهيلها .. طبعاً كان الأهالي بين خيار الدفع أو أن تبقي شركة الكهرباء الإسرائيلية على فصل التيار، فاختاروا الحل الذي في مصلحتهم.
لم تنتهِ القصة هنا، لأن المفاجأة الكبيرة كانت أن المديونية الأكبر- والتي تجاوزت المليون شيكل في حينه - هي على رجل أعمال مليونير، يملك مصانع ويتخلف عن الدفع، على قاعدة أن سلطات الاحتلال تخصم الديون من أموال السلطة (يعني أموال الشعب الفلسطيني) وكأن الأمر لا يخصه .. مع أن كل همه زيادة الأرباح والصلاة في الصف الأول في المساجد؟!.
وعندما تساءل الصحافيون لماذا السكوت عن هذا التجاوز؟ لم يجب أحد! ولم نعلم إن زادت الديون على المتخلف عن الدفع حتى اليوم أم سدد ديونه.
نسوق القصة للتأكيد على أن مشاكل شركة كهرباء محافظة القدس لم تبدأ منذ هذه اللحظة. بل منذ عقود، في ظل هجمة إسرائيلية متواصلة، وما زلت أذكر كيف تعرضت الشركة للابتزاز في منتصف الثمانينيات عندما حاول الاحتلال إلغاء امتياز الشركة، في ظل الخلاف في حينه على تزويد المستوطنات التي تقع في منطقة الامتياز والبؤر الاستيطانية في قلب القدس القديمة بالكهرباء، وكيف هبت المؤسسات الوطنية لإفشال مؤامرة الاحتلال وتمكنت الشركة من الصمود والمواجهة.
لكن مشكلة الديون المستحقة الآن يبدو أنها الأخطر في ظل تهديدات شركة الاحتلال بقطع التيار، وهو ما حصل فعلاً. وهذه مشكلة سببها نحن، ومعالجتها القائمة لم تأت بنتائج في ظل ازدواجية المعايير، خاصة في العقاب إذا كان مصطلح العقاب صحيحاً.
حملات شرطية على قرى وأحياء في مناطق الامتياز، احتجزت أشخاصاً لا تتجاوز مديونيتهم 500 شيكل، وربما أقل من ذلك، أو لتخلفهم عن سداد فاتورتين. في الوقت الذي يقوم فيه رجال أعمال وصناعيون من أصحاب الملايين بفرض سطوتهم ويتخلفون عن الدفع ولا تستطيع الشركة فصل التيار عنهم .. أليست هذه شريعة غاب؟
رئيس مجلس إدارة شركة الكهرباء محافظة القدس تحدث في مؤتمره الصحافي، أول من أمس، عن شكل من أشكال "المافيات" من أصحاب الملايين .. منهم من يضع كلاباً شرسة قرب اللوحات الكهربائية حتى لا يستطيع موظفو الشركة الاقتراب لفصل التيار ومنهم من يغلق اللوحات بالجنازير وآخرون يغلقونها بالصخور، ما يعني تصرفات على طريق العصابات "والي مش عاجبه. يضرب راسه بعامود كهرباء" .. هذا يعني أننا نعيش في ظل فوضى خلاقة مسكوت عنها.. كيف ولماذا ؟ لا إجابة، والصمت سيد الموقف. ازدواجية المعايير تخلق حالة من الاحتقان عند المواطنين.. نحن بحاجة إلى قيادة مستمعة للقاعدة لا إلى بطانة المصالح.
جزء من المشكلة تتحملها السلطة القضائية، كونها تقبل إعادة التيار بعد ساعات من قطعه على مصانع ومشاغل أصحاب رأس المال .. تحت بند طلب المحاكمات المستعجلة. 
يا قضاتنا الأجلاّء، أقنعونا "كيف يعاد التيار لرجل أعمال حسابه في البنوك يتجاوز الأصفار الستة ولا يحجز على حساباته، أو على الأقل يحتجز مكرماً في النظارة ثلاثة أيام كما يحصل مع مواطن غلبان احتجز في يوم خميس لعدم الدفع واضطر للبقاء حتى الأحد ليظهر وصل الدفع للقاضي".
في الأسبوع الماضي نفذت شركة الاحتلال تهديدها وقطعت الكهرباء، وأنا أحد المتضررين من القطع علماً أني ملتزم بتسديد الفواتير بنكياً، فلماذا أتحمل وزر المليونيرات وكبار القوم؟!
القضية الأخرى هي ديون المخيمات التي تجاوزت 500 مليون شيكل، التي يبدو أن من يقترب من مناقشتها كمن يقترب من عش الدبابير أو كمن ينطق كفرا .. سأتناولها كلاجئ وابن مخيم في السابق دون مزاودات.
المخيمات تعتمد في عدم الدفع على قرار للرئيس الشهيد ياسر عرفات خلال انتفاضة الأقصى، ولكن بعد ما يقارب عشرين عاماً ألسنا بحاجة إلى مراجعة حتى لا نجد أنفسنا في ظلام دامس بعد فترة زمنية ليست ببعيدة، إذا لا سمح الله انهارت شركة الكهرباء، في ظل أزمة مالية خانقة تعاني منها السلطة أيضاً.
القرار كان لظروف في حينها وانتهت هذه الظروف، وكانت المخيمات سابقاً تدفع مستحقاتها مثل القرى والمدن لا فرق .. وبالتالي لا بد من المصارحة والمكاشفة، من أجل نسخ هذا القرار للخروج من الأزمة. 
الجميع يفهم أن الفقراء والمحتاجين والمعوقين والمرضى والمتعطلين لهم العذر، ولكن بشكل منظم وبوجود عدادات رسمية وبسقوف عليا للاستهلاك .. ولكن لا يمكن استيعاب أن طبيبا أو مهندسا أو أستاذا جامعيا أو مقاولا أو صاحب شركة أو "سوبر ماركت" لا يدفع .. الأمر غير معقول وغير مقبول، وكارثي إذا ما استمر. وليعلم أن كل من لا يدفع أنه يأكل حق غيره ممن يدفع بانتظام.
وأكثر من ذلك، تأجر البعض في المخيمات محلات لمشاغل وشركات ومصانع للتهرب من دفع أثمان المياه والكهرباء. إضافة إلى سوء الاستخدام بحيث لم تعد الشبكات قادرة على تحمل الضغط الكبير، ما يتسبب بانقطاع التيار.
حل مديونية شركة الكهرباء يحتاج إلى مسارين متوازيين، الأول والأهم أخلاقي يتعلق بتغيير ثقافة راسخة لدينا جميعا وهي ثقافة التسول أو الحصول على كل الخدمات مجاناً .. ثقافة أن المال العام حق مشروع حتى ولو تم عن طريق السرقة .. ثقافة أن المتنفذ وصاحب رأس المال يحق له ما لا يحق لغيره .. ثقافة حان الوقت لتغييرها لأنها كارثية .. وبحاجة إلى نقاش جاد والدخول إلى عش الدبابير.. لمصلحة وطننا وأبنائنا.. أما المسار الثاني فهو مسار قانوني، بحيث يسري القانون على الجميع دون استثناءات، يدفع الكبار والأغنياء قبل المساكين والفقراء.. قانون يحاسب "المافيات" بمختلف أشكالها، ومثيري الفوضى المختبئة تحت رماد الغالبية الصامتة، دون ذلك سنصل إلى وضع شبيه بوضع الكهرباء في غزة.. فهل هذا هو ما نريده جميعا؟ الإجابة عند كل متضرر فينا!