يُصادف اليوم ذكرى رحيل الزعيم العربي جمال عبد الناصر، الذى توفى فى 28 سبتمبر من عام 1970، وهو ثاني رؤساء جمهورية مصر العربية، حيث تولى السلطة من سنة 1956 إلى وفاته.
ويُعتبر عبد الناصر أحد قادة ثورة 23 يوليو 1952 التي أطاحت بالملك فاروق "آخر حاكم من أسرة محمد علي"، وتولى جمال عبد الناصر الحكم في مصر بعد تنامي الخلافات بين الرئيس محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، وذلك في استفتاء أُجري في 23 يونيو 1956.
النشأة
ولد جمال عبد الناصر بن حسين بن خليل بن سلطان المري في 15 يناير 1918م، في منزل والده بحي باكوس بالإسكندرية قبيل أحداث ثورة 1919 في مصر، ونشأ في الإسكندرية، وتزوج السيدة "فهيمة" التي ولدت في ملوي بالمنيا، وكان جمال عبد الناصر أول أبناء والديه.
وتزوج والداه في سنة 1917، وأنجبا ولدين من بعده، وهما عز العرب والليثي، حيث قال كُتّأب سيرة عبد الناصر روبرت ستيفنس وسعيد أبو الريش إنّ عائلة عبد الناصر كانت مؤمنة بفكرة "المجد العربي"، ويتضح ذلك في اسم شقيق عبد الناصر، وهو عز العرب، وهذا اسم نادر في مصر والعالم العربي.
وسافرت الأسرة في كثير من الأحيان بسبب عمل والد جمال عبد الناصر، ففي سنة 1921، انتقلوا إلى أسيوط، ثم انتقلوا سنة 1923 إلى الخطاطبة، والتحق عبد الناصر بروضة الأطفال بمحرم بك بالإسكندرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة في الفترة ما بين سنتي 1923 و1924، وفي سنة 1925 دخل جمال مدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية بالقاهرة، وأقام عند عمه خليل حسين لمدة ثلاث سنوات، وكان جمال يسافر لزيارة أسرته بالإسكندرية فقط أثناء العطلات الدراسية.
حياته
كان عبد الناصر يتبادل الرسائل مع والدته، ولكن الرسائل توقفت في أبريل 1926، وعندما عاد إلى الخطاطبة علِم أنّ والدته قد توفت قبل أسابيع بعد ولادتها لأخيه الثالث شوقي، ولم يملك أحد الشجاعة لإخباره بذلك، وقد قال عبد الناصر في وقت لاحق: "لقد كان فقداني لأمي في حد ذاته أمراً محزنا للغاية، فقد كان فقدها بهذه الطريقة، وعدم توديعي إياها صدمة تركت في شعوراً لا يمحوه الزمن، وقد جعلتني آلامي وأحزاني الخاصة في تلك الفترة أجد مضضاً بالغاً في إنزال الآلام والأحزان بالغير في مستقبل السنين".
وبعد أنّ أتم جمال السنة الثالثة في مدرسة النحاسين بالقاهرة، أرسله والده في صيف 1928 عند جده لوالدته فقضى السنة الرابعة الابتدائية في مدرسة العطارين بالإسكندرية.
والتحق جمال عبد الناصر بالقسم الداخلي في مدرسة حلوان الثانوية وقضى بها عاماً واحداً، ثم نقل في العام التالي (1930) إلى مدرسة رأس التين بالإسكندرية بعد أنّ انتقل والده للعمل في الخدمة البريدية هناك. وقد بدأ نشاطه السياسي حينها، فقد رأى مظاهرة في ميدان المنشية بالإسكندرية، وانضم إليها دون أن يعلم مطالبها، وقد علم بعد ذلك أن هذا الاحتجاج كان من تنظيم جمعية مصر الفتاة، وكان هذا الاحتجاج يندد بالاستعمار الإنجليزي في مصر، وذلك في أعقاب قرار من رئيس الوزراء حينئذ إسماعيل صدقي بإلغاء دستور 1923، وألقي القبض على عبد الناصر واحتجز لمدة ليلة واحدة، قبل أن يُخرجه والده.
والتحق عبد الناصر بعد أنّ نقله والده إلى القاهرة في عام 1933، بمدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة، ومثل في عدة مسرحيات مدرسية، وكتب مقالات بمجلة المدرسة، منها مقالة عن الفيلسوف الفرنسي فولتير بعنوان "فولتير، رجل الحرية".
وفي نوفمبر 1935، قاد ناصر مظاهرة طلابية ضد الحكم البريطاني احتجاجاً على البيان الذي أدلى به صمويل هور وزير الخارجية البريطاني، والذي أعلن رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية في مصر، حيث قُتل اثنان من المتظاهرين وأصيب عبد الناصر بجرح في جبينه سببته رصاصة من ضابط إنجليزي، وأسرع به زملاؤه إلى دار جريدة الجهاد التي تصادف وقوع الحادث بجوارها، ونشر اسمه في العدد الذي صدر صباح اليوم التالي بين أسماء الجرحى، وفي 12 ديسمبر، أصدر الملك الجديد فاروق، قراراً بإعادة الدستور.
ونما نشاط عبد الناصر السياسي أكثر طوال سنوات مدرسته، حيث إنه لم يحضر سوى 45 يوماً أثناء سنته الأخيرة في المدرسة الثانوية، كما اعترض بشدة على المعاهدة البريطانية المصرية لسنة 1936، التي تنص على استمرار وجود قوات عسكرية بريطانية في البلاد، وقد أيدت القوات السياسية في مصر هذه المعاهدة بالإجماع تقريباً، ونتيجة لذلك انخفضت الاضطرابات السياسية في مصر بشكل كبير، واستأنف عبد الناصر دراسته في مدرسة النهضة، حيث حصل على شهادة التخرج في وقت لاحق من ذلك العام.
الحياة العسكرية
وفي سنة 1937، تقدم عبد الناصر إلى الكلية الحربية لتدريب ضباط الجيش، ولكن الشرطة سجلت مشاركته في احتجاجات مناهضة للحكومة، فمنع من دخول الكلية، والتحق بكلية الحقوق في جامعة الملك فؤاد "جامعة القاهرة حالياً"، لكنه استقال بعد فصل دراسي واحد وأعاد تقديم طلب الانضمام إلى الكلية العسكرية.
والتقى عبد الناصر بوزير الحربية إبراهيم خيرى باشا، لطلب مساعدته فوافق على انضمامه للكلية العسكرية في مارس 1937، وركز ناصر على حياته العسكرية منذ ذلك الحين، وأصبح يتصل بعائلته قليلاً، والتقى في الكلية بعبد الحكيم عامر وأنور السادات، وكلاهما أصبحا مساعدين هامين له خلال فترة رئاسته، وتخرج من الكلية العسكرية في شهر يوليو 1937، ورقي عبد الناصر إلى رتبة ملازم ثان في سلاح المشاة.
أما في سنة 1941، طلب عبد الناصر النقل إلى السودان، وهناك قابل عبد الحكيم عامر، وكانت السودان حينها جزءاً من مصر، حيث عاد جمال عبد الناصر من السودان في سبتمبر 1942، ثم حصل على وظيفة مدرب في الأكاديمية العسكرية الملكية بالقاهرة شهر مايو 1943.
وفي سنة 1942، سار مايلز لامبسون السفير البريطاني إلى قصر الملك فاروق وحاصره بالدبابات، وأمره بإقالة رئيس الوزراء حسين سري باشا، بسبب تعاطفه مع قوات المحور، ورأى ناصر الحادث بأنه انتهاك صارخ للسيادة المصرية، وقال عن ذلك: "أنا أخجل من أنّ جيشنا لم يصدر أي رد فعل ضد هذا الهجوم".
وتم قبول ناصر في كلية الأركان العامة في وقت لاحق من ذلك العام، وقد بدأ في تشكيل مجموعة تكونت من ضباط الجيش الشباب الذين يملكون مشاعر القومية القوية، واستمر اتصال ناصر مع أعضاء المجموعة من خلال عبد الحكيم عامر، كما واصل عبد الناصر البحث عن الضباط المهتمين بالأمر في مختلف فروع القوات المسلحة المصرية.
معركة فلسطين
وكانت أول معركة لعبد الناصر في فلسطين خلال الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948، حيث تطوع عبد الناصر في البداية للخدمة في اللجنة العربية العليا بقيادة محمد أمين الحسيني، وكان عبد الناصر قد التقي بالحسيني وأعجب به، ولكنّ تم رفض دخول قوات اللجنة العربية العليا في الحرب من قبل الحكومة المصرية، لأسباب غير واضحة.
وفي مايو 1948، أرسل الملك فاروق الجيش المصري إلى فلسطين، وخدم ناصر في كتيبة المشاة السادسة، وخلال الحرب كتب عبد الناصر عن عدم استعداد الجيش المصري للمعركة، بالقول: "تبدد جنودنا أمام التحصينات".
وكان عبد الناصر نائب قائد القوات المصرية المسؤولة عن تأمين الفالوجة، وأصيب بجروح طفيفة في القتال يوم 12 يوليو، وبحلول شهر أغسطس، كان عبد الناصر مع فرقته محاصرين من قبل الجيش الإسرائيلي، لكنّ الفرقة رفضت الاستسلام، وتحملت القوات المصرية القصف العنيف في الفالوجة، بالرغم من أنها كانت معزولة عن قيادتها، وقد أصبح المدافعون، بما فيهم الضابط جمال عبد الناصر أبطالاً وطنيين حينها.
ونظّمت الفنانة المصرية الراحلة أم كلثوم احتفالاً للجمهور بعودة الضباط رغم تحفظات الحكومة الملكية، التي كانت قد تعرضت لضغوط من قبل الحكومة البريطانية لمنع الاستقبال، وزاد ذلك من عزم عبد الناصر على الإطاحة بالملكية، وفي حينها بدأ بكتابة "فلسفة الثورة" أثناء الحصار.
وبعد الحرب، عاد عبد الناصر إلى وظيفته مدرساً في الأكاديمية الملكية العسكرية، وأرسل مبعوثين إلى جماعة الإخوان المسلمين، لتشكيل تحالف معها في أكتوبر سنة 1948، ولكنه اقتنع بعد ذلك بأن جدول أعمال الإخوان لم يكن متوافقاً مع نزعته القومية، وبدأ الكفاح من أجل منع تأثير الإخوان على أنشطته.
وأُرسل عبد الناصر كعضو في الوفد المصري إلى رودس في فبراير 1949 للتفاوض على هدنة رسمية مع إسرائيل، ويقول عبد الناصر إنه اعتبر شروط الهدنة مهينة، خاصة أنّ الإسرائيليين تمكنوا من احتلال منطقة إيلات بسهولة بينما هم يتفاوضون مع العرب في مارس 1949.
الضباط الأحرار
وتزامنت عودة عبد الناصر لمصر مع انقلاب حسني الزعيم في سوريا، حيث شجع نجاحه الواضح عبد الناصر في مساعيه الثورية، وبعد فترة وجيزة من عودته استدعى رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي عبد الناصر لاستجوابه بشأن شكوك بأنّه تم تشكيل مجموعة سرية من ضباط المعارضة؛ فيما نفى عبد الناصر هذه المزاعم بشكلٍ مقنع، وقد كان عبد الهادي متردداً في اتخاذ تدابير جذرية ضد الجيش، خصوصاً أمام رئيس أركانه، الذي كان حاضراً أثناء الاستجواب، وأفرج عن عبد الناصر في وقت لاحق، ما دفع بعبد الناصر إلى تسريع أنشطة جماعته.
وبعد سنة 1949، اعتمد الفريق اسم "حركة الضباط الأحرار"، ونظّم عبد الناصر "اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار"، والتي تألفت من أربعة عشر رجلاً من مختلف الخلفيات السياسية والاجتماعية، بما في ذلك ممثلين عن الشباب المصريين، والإخوان المسلمين، والحزب الشيوعي المصري، والطبقة الأرستقراطية، وانتخب ناصر رئيساً لها.
وفي الانتخابات البرلمانية لسنة 1950، فاز حزب الوفد بأغلبية المقاعد، وذلك بسبب غياب جماعة الإخوان المسلمين، الذين قاطعوا الانتخابات، وبدأت الاتهامات بالفساد ضد سياسيي حزب الوفد تطفو على السطح، حيث انتشرت الشائعات والشكوك حولهم، ما جلب الضباط الأحرار إلى واجهة الحياة السياسية المصرية، وبحلول ذلك الوقت كان عدد أعضاء الجمعية قد ارتفع إلى 90 عضواً.
وفي 11 أكتوبر سنة 1951، ألغت حكومة الوفد المعاهدة البريطانية المصرية لعام 1936، والتي أعطت السيطرة لبريطانيا على قناة السويس حتى سنة 1956.
ثورة 23 يوليو
ويوم 25 يناير سنة 1952، حدثت مواجهة بين القوات البريطانية وشرطة الإسماعيلية أدت إلى مقتل أربعين من رجال الشرطة المصرية بالرصاص، ودارت أعمال شغب في القاهرة في اليوم التالي، ما أسفر عن مقتل 76 شخصاً.
وبعد ذلك نشر ناصر برنامجاً من ست نقاط لمصر في مجلة روز اليوسف لتفكيك الإقطاع والقضاء على النفوذ البريطاني. في مايو 1952، وتلقى ناصر كلمة تقول إنّ الملك فاروق قد عرف أسماء الضباط الأحرار وسيقوم بإلقاء القبض عليهم، فقام عبد الناصر على الفور بتوكيل مهمة التخطيط للاستيلاء على الحكومة إلى زكريا محي الدين، بمساعدة وحدات الجيش الموالية للجمعية.
وكان الضباط الأحرار يقولون إنّ نيتهم ليست تثبيت أنفسهم في الحكومة، وإنما إعادة إنشاء دولة ديمقراطية برلمانية، ولكنّ عبد الناصر لم يعتقد أنّه سيكون مقبولاً لدى الشعب المصري لأنّ رتبته متدنية (مقدم)، واختار لذلك محمد نجيب ليكون قائداً للثورة "اسمياً".
وانطلقت الثورة يوم 22 يوليو وأعلن نجاحها في اليوم التالي، حيث استولى الضباط الأحرار على جميع المباني الحكومية، والمحطات الإذاعية، ومراكز الشرطة، وكذلك مقر قيادة الجيش في القاهرة.
وكان العديد من الضباط المتمردين يقودون وحداتهم، ارتدى ناصر ملابس مدنية لتجنب القبض عليه عن طريق النظام الملكي، وفي خطوة لدرء التدخل الأجنبي، أخبر ناصر الولايات المتحدة والحكومة البريطانية قبل يومين من الثورة عن نواياه واتفق معهما على عدم مساعدة فاروق، وتحت ضغط من أمريكا، وافق ناصر على نفي الملك المخلوع مع احتفال تكريمي.
عبد الناصر ومحمد نجيب
في يوم 18 يونيو سنة 1953، تم إلغاء النظام الملكي وأُعلن قيام الجمهورية في مصر، وكان نجيب أول رئيس لها، حيث أصبح ناصر والضباط الأحرار "أوصياء على مصالح الشعب" ضد النظام الملكي وطبقة "الباشاوات"، وطلبوا من رئيس الوزراء السابق علي ماهر قبول إعادة تعيينه في موقعه السابق، وتشكيل مجلس الوزراء بأكمله من المدنيين.
وحكم الضباط الأحرار باسم "مجلس قيادة الثورة" عن طريق محمد نجيب رئيساً وجمال عبد الناصر نائباً للرئيس، وقام عبد الناصر بالعديد من الإصلاحات كقانون الإصلاح الزراعي، وإلغاء النظام الملكي، وإعادة تنظيم الأحزاب السياسية.
فيما استقال ماهر يوم 7 سبتمبر، وتولى نجيب دوراً إضافياً وهو رئاسة الوزراء، وعبد الناصر نائباً لرئيس الوزراء، أما في سبتمبر تم وضع قانون الإصلاح الزراعي حيز التنفيذ، ومن وجهة نظر عبد الناصر، أعطى هذا القانون مجلس قيادة الثورة هويته وحول الانقلاب إلى ثورة.
الوصول للرئاسة
وفي يناير 1953 تمكن عبد الناصر من التغلب على المعارضة بقيادة نجيب وحظر جميع الأحزاب السياسية، وأنشأ نظام الحزب الواحد تحت مظلة هيئة التحرير، والأخيرة حركة فضفاضة كانت مهمتها الرئيسية تنظيم مسيرات وإلقاء محاضرات مناؤة لمجلس قيادة الثورة، وتولى عبد الناصر منصب أمينها العام.
وعلى الرغم من قرار حل البرلمان، كان عبد الناصر عضو مجلس قيادة الثورة الوحيد الذي ما زال يفضل إجراء الانتخابات البرلمانية، وظل عبد الناصر ينادي بإجراء الانتخابات البرلمانية في سنة 1956، أما في مارس سنة 1953، قاد ناصر الوفد المصري للتفاوض على انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس.
وبعد أنّ بدأت علامات الاستقلال من مجلس قيادة الثورة تظهر من نجيب، حيث نأى بنفسه عن قانون الإصلاح الزراعي وتقرب إلى الأحزاب المعارضة لمجلس قيادة الثورة مثل: "جماعة الإخوان المسلمين وحزب الوفد"، فكر ناصر في تنحيته بشهر يونيو، وسيطر ناصر على منصب وزير الداخلية بعزل الوزير سليمان حافظ، الموالي لمحمد نجيب، وضغط على نجيب لاختتام إلغاء النظام الملكي.
وفي 25 فبراير 1954، أعلن نجيب استقالته من مجلس قيادة الثورة بعد أنّ عقد مجلس قيادة الثورة لقاءً رسمياً دون حضوره، وفي 26 فبراير قبل ناصر استقالة نجيب، وقام بوضع نجيب تحت الإقامة الجبرية في منزله، وقد عيّنَ مجلس قيادة الثورة ناصر قائداً لمجلس قيادة الثورة ورئيساً لمجلس الوزراء، على أنّ يبقى منصب رئيس الجمهورية شاغراً.
وتمرد عدد من ضباط الجيش، وطالبوا بإعادة نجيب وحل مجلس قيادة الثورة، ولكنّ في 27 فبراير، أطلق أنصار عبد الناصر في الجيش غارة على القيادة العامة العسكرية، وقاموا بإنهاء التمرد، وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، نظم مئات الآلاف من أعضاء جماعة الأخوان المسلمين مظاهرات، ودعوا لعودة نجيب وسجن عبد الناصر، وطالبت مجموعة كبيرة داخل مجلس قيادة الثورة، بقيادة خالد محيي الدين، بإطلاق سراح نجيب وعودته إلى رئاسة الجمهورية، واضطر ناصر إلى الإذعان لمطالبهم، ولكنه أجل إعادة نجيب حتى 4 مارس، وقام بتعيين عبد الحكيم عامر قائداً للقوات المسلحة، وكان هذا المنصب في يد محمد نجيب قبل عزله.
ويوم 5 مارس، قامت قوات الأمن التابعة لعبد الناصر بالقبض على الآلاف من المشاركين في المظاهرات الداعية لعودة نجيب، حيث نجح مجلس قيادة الثورة في إثارة المستفيدين من الثورة، أي العمال والفلاحين، والبرجوازيين الصغار، وقاموا بتنظيم مظاهرات كبيرة، لمعارضة قرارات نجيب، التي ألغى فيها قانون الإصلاح الزراعي وعدة إصلاحات أخرى.
وسعى نجيب لقمع المظاهرات، ولكن تم رفض طلباته من قبل رؤساء قوات الأمن، وفي يوم 29 مارس، أعلن ناصر إلغاء قرارات نجيب "رداً على طلب الشارع"، وبين شهري أبريل ويونيو، تم اعتقال وفصل مئات من مؤيدي نجيب في الجيش، وكان محيي الدين منفيًا في سويسرا بصورة غير رسمية "لتمثيل مجلس قيادة الثورة في الخارج"، وحاول الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية إصلاح العلاقات بين عبد الناصر ونجيب، ولكن دون جدوى.
رئاسة قيادة الثورة
وفي 26 أكتوبر 1954، حاول محمود عبد اللطيف أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين اغتيال عبد الناصر، عندما كان يلقي خطاباً في الإسكندرية للاحتفال بالانسحاب العسكري البريطاني، حيث كان المسلح بعيداً عنه بـ 25 قدماً (7.6 متر)، وأطلق ثماني طلقات، ولكن جميع الطلقات لم تصب ناصر، واندلعت حالة من الذعر بين الجمهور، لكنّ ناصر رفع صوته وطلب من الجماهير الهدوء، وقال: "ليبقَ كل في مكانه أيها الرجال، فليبق كل في مكانه أيها الرجال، حياتي فداء لكم، دمي فداء لكم، سأعيش من أجلكم، وأموت من أجل حريتكم وشرفكم، إذا كان يجب أن يموت جمال عبد الناصر، يجب أن يكون كل واحد منكم جمال عبد الناصر، جمال عبد الناصر منكم ومستعد للتضحية بحياته من أجل البلاد".
ثم تعالت صيحات التشجيع لعبد الناصر في مصر والوطن العربي، وأحدثت محاولة الاغتيال نتائج عكسية، وبعد عودته إلى القاهرة أمر عبد الناصر بواحدة من أكبر الحملات السياسية في التاريخ الحديث لمصر، فتم اعتقال الآلاف من المعارضين، ومعظمهم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والشيوعيين، وتمت إقالة 140 ضابطاً موالياً لنجيب، وحكمَ على ثمانية من قادة الإخوان بالإعدام، وإزالة محمد نجيب من رئاسة الجمهورية ووضعه تحت الإقامة الجبرية دون محاكمته، ولم يُدافع عنه أحد من الجيش وبعد تحييد منافسيه أصبح عبد الناصر الزعيم في مصر بلا منازع.
وكان عدد مؤيدي عبد الناصر آنذاك لا يضمن له الحفاظ على خططه الإصلاحية، فألقى عدة خطب في أماكن مختلفة من البلاد للتعريف بنهجه، وفرض بعض الضوابط على الصحافة، وأعلن أن جميع المنشورات والصحف لابد أن تلقى موافقته عليها لمنع "الفتنة".
وبعد ذلك غنى كل من أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وبعض المطربين العرب البارزين في ذلك العصر عدة أغاني تشيد بقومية عبد الناصر، وأنتجت عدة مسرحيات تشوه سمعة خصومه السياسيين، ووفقاً لبعض معاونيه، دبر عبد الناصر الحملة بنفسه، وبدأت القومية العربية تظهر بشكل متكرر في خطاباته في سنتي 1954 - 1955، ثم في يناير 1955 عُيّنَ رئيساً لمجلس قيادة الثورة.
وأجرى عبد الناصر اتصالات بغرض السلام مع إسرائيل في عامي 1954 - 1955، لكنه صمم بعد ذلك على أنّ السلام مع إسرائيل مستحيل، واعتبر أنّها "دولة توسعية تنظر للعرب بإزدراء".
وفي يوم 28 فبراير 1955، هاجمت القوات الإسرائيلية قطاع غزّة، الذي كانت تسيطر عليه مصر في ذلك الوقت، وأعلنت إسرائيل أنّ هدفها هو القضاء على الغارات الفدائية الفلسطينية، فشعر عبد الناصر بأنّ الجيش المصري ليس على استعداد للمواجهة ولم يرد عسكرياً.
وفي وقت لاحق أمر ناصر بتشديد الحصار على الملاحة الإسرائيلية من خلال مضيق تيران، وقام الإسرائيليون بإعادة عسكرة منطقة عوجة الحفير منزوعة السلاح على الحدود المصرية في 21 سبتمبر.
وتم تشكيل حلف بغداد بين بعض الحلفاء الإقليميين للمملكة المتحدة، واعتبر عبد الناصر حلف بغداد تهديداً لجهوده للقضاء على النفوذ العسكري البريطاني في الشرق الأوسط، وآلية لتقويض جامعة الدول العربية و"إدامة التبعية العربية للصهيونية والإمبريالية الغربية".
ورأى ناصر أنّه إذا كان يريد الحفاظ على الموقع الريادي الإقليمي لمصر فهو يحتاج إلى الحصول على الأسلحة الحديثة لتسليح جيشه، وعندما أصبح واضحاً له أنّ الدول الغربية لن تمد مصر بالأسلحة تحت شروط مالية وعسكرية مقبولة، تحوّلَ عبد الناصر إلى الكتلة الشرقية وأبرم اتفاق شراء أسلحة من تشيكوسلوفاكيا بمبلغ 320 مليون دولار أمريكي في 27 سبتمبر، وبعد صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية، أصبح ميزان القوى بين مصر وإسرائيل أكثر تعادلاً، وتعزّزَ دور عبد الناصر كقائد للعرب يتحدى الغرب.
المصدر: ويكيبيديا