البحر الميت، يموت

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

خلال الخمسين سنة الماضية، انخفض منسوب نهر الأردن إلى درجة خطيرة، حتى بات مجرد جدول ضحل، أما البحر الميت فيواصل انخفاض منسوبه بمعدل متر ونصف متر سنويا، وقد تقلصت مساحته قرابة الثلث، ومن المتوقع أن يختفي ويجف بعد نصف قرن آخر، إذا ما استمر معدل جفافه على نفس الوتيرة، وبالتالي سيتحول البحر إلى شبه مستنقع من الحفر الانهدامية المالحة والخطرة، وبذلك، ستختفي أهم وأندر ظاهرة جيولوجية في المنطقة، وأبرز معالمها السياحية، وستتحول الأغوار من سلة غذاء للأردن وفلسطين إلى صحراء قاحلة، وهذا ينطوي على مخاطر بيئية خطيرة تهدد التنوع الحيوي في المنطقة.
من المشاريع المقترحة لإنقاذ البحر الميت شق قناة وتوصيل أنابيب لنقل مياه البحر الأحمر إليه، وهو ما يعرف بقناة البحرين، وهو مشروع مائي عملاق يهدف إلى حل مشكلة ندرة المياه لدول المنطقة، وتوليد طاقة كهربائية، وتشغيل أيد عاملة، وتنشيط السياحة، وإعادة منسوب البحر الميت إلى سابق عهده قبل أن يتهدده خطر الجفاف.
وفقا للقانون الدولي، يعتبر نهر الأردن والبحر الميت حوضا مائيا دوليا، تتشارك فيه الأطراف المتشاطئة، ولا يحق لأي طرف اتخاذ إجراءات من شأنها الإخلال بالنظام البيئي أو المائي، أو انتهاك حق أي طرف آخر، ويشترط إقامة أي مشروع داخل الحوض موافقة الأطراف مجتمعة.
والبحر الميت، الذي هو الهدف المعلن للمشروع، من المفترض أن تنتفع من خيراته وموارده شعوب المنطقة بعدالة وإنصاف، لكن إسرائيل التي تحتل الشاطئ الغربي للبحر، تمنع الفلسطينيين كليا من الاستفادة منه. أما استفادة الجانب الأردني منه فهي أقل بكثير من استفادة الإسرائيليين. وهذا الوضع ينطبق تماما على نهر الأردن. وإسرائيل هي التي تتحمل مسؤولية انخفاض منسوبهما وتعرضهما للجفاف، لكنها تسوِّق المشكلة عالميا على أنها مجرد مشكلة بيئية، وليست نتاج مشاريع النهب الإسرائيلية.
ومنذ البداية، تنطلق إسرائيل من رؤيتها الإستراتيجية بضرورة التحكم بمياه المنطقة، فهي، لا تتعاطى مع أي مشروع إلا إذا كان يخدم مصالحها بالدرجة الأولى، ولذلك كان "شارون" من أشد المتحمسين لمشروع القناة. وقد صرح بعد الإعلان عن اتفاقية دراسة جدوى قناة البحرين (عام 2005)، بأن هدف إسرائيل من الآن وحتى عام 2020 هو توطين مليون يهودي في صحراء النقب، وطبعا فإن أول شرط لتوطين هؤلاء هو توفر المياه.
أما مسألة إنقاذ البحر الميت، فيبدو أنها الواجهة فقط، التي تريد إسرائيل الاختفاء خلفها للتنصل من انتهاكاتها بحق نهر الأردن والبحر الميت، التي كانت السبب الأهم والرئيسي في تراجع منسوبهما، وتعريضهما للجفاف.
الحل الحقيقي لهذه المشكلة يتمثل في إعادة تأهيل نهر الأردن، وإعادة مجراه الطبيعي إلى سابق عهده، وإيقاف كافة المشاريع الإسرائيلية التي تقوم على تحويل مجراه لصالح مشاريع استيطانية في النقب، وإيقاف كافة التدابير والإجراءات التي اتخذتها إسرائيل في نهر اليرموك وغيره من الروافد التي كانت تصب في نهر الأردن والبحر الميت. بمعنى أن تُوقف إسرائيل حجبها لتدفق مياه بحيرة طبرية في نهر الأردن (نحو 650 مليون متر مكعب يتم نهبها سنويا من حوض نهر الأردن)، فضلا عن وقف نشاطات المصانع الإسرائيلية المستنزفة لمياه البحر الميت (أكثر من 250 مليون متر مكعب تستنزفها المصانع من البحر).
وحل مشكلة ندرة المياه هو التقاسم العادل والمنصف للمياه الجوفية الموجودة في فلسطين، دون استحواذ وهيمنة من قبل إسرائيل، وهي كميات متجددة وكافية لأن تنعم شعوب المنطقة بأمان مائي لمئات السنين.
وبالنسبة للأردن، لديها حوض الديسي على الحدود السعودية، تستغل الأردن منه ما معدله 20% من حصته في الحوض، القادر على تزويد 1200 مليون م3. وأيضا، يرى خبراء أن أبرز الحلول التي يمكن العمل بها لتخطي الأزمة المائية تتمثل بمشروع الطاقة النووية، حيث توفر هذه الطاقة ما يلزم لتشغيل توربينات تحلية مياه البحر الأحمر، وجر مياه الديسي إلى العاصمة عمّان.
ومع ذلك، فإن مشروع قناة البحرين يمكن أن يكون مشروعا اقتصاديا وبيئيا واعداً يخدم شعوب المنطقة، حيث أنه سيعوض النقص في مياه البحر الميت، وسينقذه من خطر الجفاف، وسيعيد الاعتبار للمنطقة، بما ينشطها اقتصاديا وسياحيا، وسيزودها بالطاقة الكهربائية الرخيصة، وبكميات ضخمة من مياه البحر المحلاة، بما يخفف الضغط على مصادر المياه الجوفية العذبة.
ولكن، وأهم ما في الموضوع، ألا يكون مشروع قناة البحرين بديلا عن تأهيل نهر الأردن، لأنه في هذه الحالة سيؤدي إلى جفاف النهر، وسيكون غطاء لجرائم إسرائيل المائية والبيئية.
وأيضا، يجب أن يكون تقاسم منافع القناة منصفا وعادلا بين شعوب المنطقة، بحيث لا تكون اليد العليا لإسرائيل، وأن تتوفر ضمانات دولية بحيث لا تتعسف إسرائيل وتتحكم في توزيع منافع القناة المائية والكهربائية. وهذا يعني أن على الفلسطينيين أن يشترطوا لقاء موافقتهم على مشروع القناة إنجاز قضايا الحل النهائي، وخاصة قضايا المياه والحدود. لأن موافقتهم على المشروع قبل ترسيم حدود الدولة الفلسطينية، والحصول على اعتراف إسرائيل (والعالم) بحقوق الفلسطينيين المشروعة والثابتة في المياه، ستعني ضياع الحقوق المائية الفلسطينية، والإقرار بالوضع الجديد الذي سيمكّن إسرائيل من مواصلة تحكمها بالمياه على نحو غير عادل.
وكذلك، وقبل الشروع في التنفيذ يجب وضع الخطط والبدائل لإنقاذ البيئة المحيطة من مخاطر القناة المحتملة، خاصة في مجال التوازن البيئي والتنوع الحيوي، والمشاكل الناجمة عن إغراق المناطق المتاخمة للبحر الميت. حيث أن الشروط المرجعية التي حددها البنك الدولي ذكرت أهمية إجراء دراسة بيئية شاملة بالتوازي مع دراسة الجدوى الاقتصادية.
ولكن، ورغم توقيع الاتفاق، فإن بعض الأمور لا زالت غامضة، أو غير معلن عنها بوضوح، خاصة قضية تغييب الطرف الفلسطيني من التوقيع، وأيضا، مسألة تحويل الطاقة المائية إلى كهربائية، حيث أنه لا توجد مساقط مائية تصلح لهذا الغرض، بالرغم من فرق المنسوب الكبير (تقريبا 400 متر)، وهذا الفرق يتوزع على طول القناة، وكذلك مسألة توزيع المياه؛ من الذي سيقوم بذلك، ومن سيبيع ومن سيشتري، ومن سيحدد الأسعار والكميات، ونفس المسألة تنطبق على الكهرباء، وما هي التدابير المتخذة لتلافي الأضرار البيئية.
----
من دراسة مطولة، نشرتها في مجلة "سياسات"، عدد 45.