عاد الهدوء النسبي مرة أخرى إلى مناطق التوتر في بغداد ومدن عراقية أخرى في جنوب البلاد بعد أيام من التظاهرات والاشتباكات بين جموع الفقراء الغاضبين وقوات الأمن المدججة بالسلاح وبالولاء لمرجعيات سياسية وراء الحدود.
لكن الهدوء الذي عاد إلى الديوانية والناصرية والبصرة تحقق "بعد خراب البصرة" مثلما يقول أهل المدينة التي شهدت في أزمان سابقة ثورات وانتفاضات كثيرة منها تمرد الزنج في القرن التاسع الميلادي حين سيطر قائد التمرد علي بن محمد على البصرة وحكمها بالحديد والنار قبل أن يتحرك الخليفة المعتمد أحمد بن المتوكل ويرسل أخاه على رأس جيش كبير ليسحق التمرد ويعيد المدينة وضواحيها إلى حضن الدولة.
آنئذ شعر أهل المدينة بفرحة النصر لكنهم شعروا أيضاً بفداحة الخسارة وعرفوا أن انتصار الخليفة جاء بعد خراب البصرة.
في التاريخ القريب أيضاً أعادت البصرة إنتاج خرابها حين انخرطت المدينة في الحملة المناوئة للدولة وتحالفت مع الفرس والأمريكان من أجل إسقاط حكم الرئيس صدام حسين، وكان ذلك نتيجة تحشيد طائفي ينطلق من الإحساس بمظلومية عمرها عشرات القرون، تم تخزينها في النفوس وتفجيرها ضد الذات العراقية في لحظة تاريخية آثمة.
آنئذ، وفي ذروة التحشيد الطائفي كان الجنوب العراقي يستعد لمرحلة ما بعد سقوط الدولة، ويستقبل الغزاة بأذرع مفتوحة وكأنهم مخلصون جاءوا لينشروا العدل والمحبة والسلام في ربوع البلاد. ولم يكن المحكومون بعقدة المظلومية يعرفون أن البلاد تسقط في احتلال أمريكي يستمد بقاءه من إدامة الفوضى ومن الشراكة الواقعية مع الإيرانيين في حكم بلاد الرافدين.
الآن، وبعد عقد ونصف من السقوط يكتشف الجنوب خطأه وبؤس رهانه على الغرباء، فينتفض مدفوعا بالجوع ضد نفوذ الأدوات الرسمية والحزبية الحاكمة وضد أذرع طهران السياسية في بغداد. لكن هذه الانتفاضة تجيء أيضا بعد خراب البصرة، وبعد أن صار النفوذ الإيراني في العراق حقيقة صعبة النفي أو الشطب أو التغيير، وهي حقيقة يراد لها أن تكون أمرا واقعا مقبولا رغم تجلياتها الموجعة التي تتمثل في فقر العراقيين وجوعهم وانعدام الخدمات في مدنهم الجنوبية التي توقع الحكم ومرجعيته الفارسية أن تعيد تجديد إنتاج مظلوميتها التاريخية لتنسى واقعها المزري.
لم يحدث ذلك، واستطاع الحاضر الصعب أن يشطب أحقاد الماضي، وأن ينتج حالة نفسية وذهنية عراقية جديدة ترى بعيون لا يرمدها التعصب الطائفي واقعا لا تجمله الخطابات السياسية والتعبئة المذهبية، واكتشف أهل الجنوب أن مظلوميتهم الحقيقية معاصرة، واستطاعوا أيضا أن يروا كم هم محرومون تحت حكم من قالوا إنهم قادوا ثورة المحرومين.
خرجت جموع الغاضبين إلى الشوارع احتجاجاً على الفقر وعلى انعدام الخدمات، فلا ماء ولا كهرباء ولا غاز في جنوب يعوم على بحر من النفط والغاز!
في زمن ما قبل الاحتلال، كان الجنوب يعاني من القمع السياسي ومن تقييد الحريات، لكن الدولة التي حرمت أهل الجنوب من حرياتهم السياسية ومنعتهم من التحشيد الطائفي كانت تلبي حقهم في العيش المكتفي والآمن.
وبعد سقوط الدولة غاب الرغيف، وظلت الحرية غائبة أيضاً، فمن لا ينخرط في مشروع فرسنة البلاد يختفي في السجون الرهيبة أو يخطف في عتمة ليل المؤامرة أو يقتل في مظاهرة تطالب بالحق في الخبز.
يعيش أهل الجنوب واقعهم الصعب، لكنهم يعيدون الآن ترتيب أولوياتهم، ويبدو أنهم عازمون على المضي في طريق المواجهة، لأنهم يدركون أن لا طريق آخر يعيد البلاد إلى أهلها.
انتفضت البصرة بعد خرابها الثالث وستظل تنتفض حتى تستعيد حياتها، وحتى يعود الجنوب مثلما كان عزيزاً وعربي الوجه واللسان والوعي.