ديمقراطية إسرائيل المهشّمة وتداعياتها

حجم الخط

بقلم: ا. د ألون بن مئير

 

إسرائيل هي ديمقراطية مثلها مثل معظم الديمقراطيات البرلمانية، حيث أن الحزب الذي يفوز بأغلبية الأصوات يقوم بتشيكل الحكومة، ويطلب من عدد قليل من الأحزاب الأصغر الانضمام إلى حكومة ائتلافية إذا لم يحصل على أغلبية مطلقة. وبالمقارنة مع معظم الديمقراطيات البرلمانية، لا سيما في أوروبا الغربية، يوجد في إسرائيل عدد أكبر من الأحزاب التي ترعرعت على مر السنين ويسعى كل منها الى الحصول على أكبر تمثيل في البرلمان الإسرائيلي.

وهناك سببان رئيسيان وراء العدد الكبير من الأحزاب السياسية: فاليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل من حوالي 120 دولة ينحدرون من خلفيات ثقافية وسياسية وأيديولوجية مختلفة، فهناك من هو ليبرالي ومحافظ واشتراكي وحتى شيوعي. ورغم إلتزامهم جميعًا بأمن ورفاهية الدولة، إلا أنهم يتشبثون بمنظومة معتقداتهم السياسية والإيديولوجية، ما أدى إلى تشكيل عدد كبير من الأحزاب.

والسبب الثاني هو أنه لغاية عام 1988، كانت العتبة الانتخابية لحزب ما للحصول على مقعد في الكنيست تساوي 1 في المائة فقط من الأصوات. لكن منذ ذلك الحين، تم رفع نسبة الحسم بنسب مئوية ضئيلة حتى آذار 2014 عندما صادق الكنيست على قانون جديد لرفع العتبة إلى 3.25 في المئة، بهدف توحيد وتقليص عدد الأحزاب.

وحتى مع العتبة الإنتخابية البالغة 3.25 في المائة، تشجعت المجموعات الإيديولوجية المختلفة على تشكيل أحزاب خاصة بها لتحقيق أربعة أهداف: تلبية الطموح الشخصي لقادة الحزب وترويج سياسات الحزب والحفاظ على دعم الموالين له، وتعزيز مواقفهم على طاولة المفاوضات في حال دعوتهم للانضمام إلى حكومة ائتلافية.

وهناك ظاهرة أخرى مثيرة للاهتمام في النظام الانتخابي الإسرائيلي، حيث يتم إعادة تشكيل الحزب قبل أي انتخابات. فيتم تشكيل عدة أحزاب جديدة، بينما تتحد بعض الأحزاب القائمة لإنشاء كتلة أقوى وتذوب الأحزاب القائمة الأخرى بالتمام.

ويتمثل القصور الرئيسي في بقاء العديد من الأحزاب في استحالة حصول أي حزب على أكثر من 50 في المائة من المقاعد البرلمانية (61 من أصل 120). ونتيجة لذلك، أصبحت جميع الحكومات الإسرائيلية منذ إقامتها حكومات ائتلافية مكونة من عدة أحزاب.

وفي كل مرة، تصبح الجهود المبذولة لتشكيل حكومات ائتلافية مثقلة بالشركاء المحتملين في الائتلاف الذين يواصلون التشبث بأيديولوجياتهم وأولوياتهم المختلفة والطموحات الشخصية لقيادة الحزب التي غالباً ما توضع فوق الحزب أو حتى المصالح الوطنية.

ومع الرغبة في أن يكونوا جزءًا من الحكومة، يوافق شركاء الإئتلاف على تقديم بعض التنازلات والتي غالباً ما تكون مؤقتة أو مشروطة. والنتيجة النهائية لذلك توصل الأحزاب المختلفة الى تسوية على أدنى قاسم مشترك، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، ما يضعف عن غير قصد من قدرة الحكومة في اتخاذ مبادرات كبيرة ما لم يكن هناك دعم كامل من جميع أعضاء الائتلاف.

وتطرح نتيجة الانتخابات الأخيرة صورة صارخة للنظام السياسي الفوضوي في إسرائيل. فلقد خاض 29 حزباً الانتخابات في أيلول، تمكنت تسعة منها فقط في اجتياز العتبة الإنتخابية، حيث فاز حزب "أزرق أبيض" بزعامة بيني غانتس بـ33 مقعدًا يليه "الليكود" بزعامة نتنياهو بحصوله على 32 مقعدًا. وحلت ثالثا "القائمة العربية المشتركة" التي تمكنت من الحصول على 13 مقعدًا. أما الستة الباقون فهم: "شاس" (9) و"إسرائيل بيتنا" (8) و"التوراة اليهودية المتحدة" (7) و"يامينا" (7) و"حزب العمل" (6) و"المعسكر الديمقراطي"(5).

وتتألف كتلة نتنياهو من أحزاب يمينية وأصولية متطرفة، ويبلغ مجموع مقاعدها حالياً 55 مقعدًا من أصل 120 مقعدًا. وللكتلة اليسارية المضادة، باستثناء القائمة العربية، 44 مقعدًا.

وعلى الرغم من أن القائمة العربية وافقت على دعم الكتلة اليسارية دون الانضمام إلى حكومة يقودها غانتس، رفض ثلاثة من أصل 13 عضوا تأييد غانتس. ونتيجة لذلك، حصلت الكتلة اليسارية على 54 مقعدًا، وهو ما يفسر قرار الرئيس الإسرائيلي ريفلين منح نتنياهو الفرصة الأولى لتشكيل الحكومة.

وبعد فشل نتنياهو في تشكيل حكومة من معسكره، دعا غانتس الى تشكيل حكومة وحدة، لكنهما اختلفا بشكل أساسي حول من يجب أن يكون رئيس الوزراء، حيث أراد نتنياهو شغل منصب رئيس الوزراء، ليس بسبب شهوته التي لا تنتهي أبدًا للسلطة فقط، ولكن لأنه أراد أيضًا تجنب لائحة الاتهام المعلقة بحقه بشأن ثلاث تهم بالفساد والتي يحتمل تجنبها كرئيس حالي للوزراء.

ومن جهته، أصر غانتس على شغل منصب رئيس الوزراء لأن: أ) حزبه فاز بـ 33 مقعدا مقابل 32 لنتنياهو. ب) يرفض الانضمام إلى حكومة ائتلافية مع الليكود طالما أن نتنياهو على رأسها، لاحتمال توجيه لائحة اتهام اليه. وفي الواقع، بدأت على التو جلسة الإستماع لنتنياهو بخصوص لائحة الاتهام.

ولكسر الجمود، قدم الرئيس ريفلين عدة خيارات للمساعدة في تسهيل تشكيل حكومة وحدة وطنية، بما في ذلك التناوب على منصب رئيس الوزراء حتى يتمكن كل منهما شغل المنصب لمدة عامين. كما تقدم ريفلين بفكرة قيام كل منهما بالعمل كرئيس وزراء في ذات الوقت لكن بمسؤوليات وصلاحيات مقسمة بالتساوي بينهما.

وعلى الرغم من موافقة نتنياهو، إلا أنه أصر على العمل لمدة عامين فقط لتجنب لائحة الاتهام. لكن غانتس رفض الفكرة من حيث المبدأ لأنه وكما قال منذ البداية لن ينضم إلى حكومة يشغل فيها نتنياهو منصب رئيس الوزراء.

الحزب الذي لا يزال خارج هذه المناقشات حول حكومة الوحدة هو حزب إسرائيلبيتنا برئاسة أفيغدور ليبرمان الذي يصر على الانضمام لحكومة وحدة وطنية بين الحزبين الرئيسيين فقط وبدون أي من الأحزاب الدينية، ما يمنح الحكومة أغلبية قوية من 73 مقعدًا.

ومع ذلك، لم يتحقق هذا مع بقاء الإنقسام بين نتنياهو وغانتس. ولقد رفض نتنياهو عرض ليبرمان للدخول في مناقشة حكومة الوحدة بين غانتس ونتنياهو للمساعدة في تسهيل التوصل إلى اتفاق، وقال: "لا جدوى من إضاعة وقت إسرائيل. سنلتقي ونقرر كيفية المضي قدمًا إذا رأينا نوايا جادة."

والنظام الانتخابي النسبي في إسرائيل لم يفشل فقط في إنتاج فائز صريح يمكنه الحكم بتفويض شعبي، لكن في عملية التفاوض بين الشركاء المحتملين في التحالف، لا يكاد يكون هناك أي نقاش حول القضايا الرئيسية التي تواجه الأمة. فعلى سبيل المثال، النقاش ضئيل أو معدوم حول الصراع مع الفلسطينيين، أو كيفية التعامل مع التهديد الإيراني أو ما يجب فعله مع حماس، إلى جانب العديد من القضايا الخارجية والداخلية الهامة الأخرى مثل نظام الرعاية الصحية المهزوز.

وأساسا، هذا تكرار لما حدث بعد انتخابات نيسان، حيث انصب الكثير من النقاش بين الأطراف حول الطموحات الشخصية للقادة المعنيين. وتستمر المساومة لعدة أيام إن لم تكن أسابيع، حيث يتنافس قادة كل حزب على هذا المنصب أو ذاك بغض النظر عن مؤهلاتهم.

وبعد الفشل في تشكيل حكومة، يُطلب من نتنياهو إعادة الولاية إلى الرئيس الذي قد يطلب بعد ذلك من غانتس محاولة تشكيل حكومة جديدة. وإن فشل الأخير سوف يعجل بإجراء انتخابات أخرى والتي ستكون الانتخابات الثالثة في أقل من عام. وبالنظر إلى الظروف السياسية السائدة، فمن غير المرجح أن تسفر الانتخابات الثالثة عن نتائج مختلفة بشكل كبير. وما تحتاجه إسرائيل هو إصلاح شامل لنظامها السياسي السخيف الذي يشجع فقط على ازدهار الأحزاب الصغيرة.

وبادئ ذي بدء، ينبغي على إسرائيل رفع العتبة إلى خمسة في المائة كحد أدنى ما سيؤدي إلى القضاء على العديد من الأطراف غير القادرة على تجاوز نسبة الحسم. لكن الأهم من كل ذلك قيام معسكرات يمين الوسط ويسار الوسط بتشكيل حزب موحد لكل معسكر. وكما هو الحال، يلتقي دائما كل معسكر تقريبًا لتشكيل حكومة ائتلافية. ومن خلال تشكيل النظام الانتخابي في إسرائيل وفق النموذج البريطاني، يتمتع حزب أو آخر بفرصة أفضل بكثير للفوز بأغلبية ساحقة.

وتتمثل الميزة الأكبر لهذا النظام في أن جميع الأحزاب الصغيرة التي لم يعد لديها فرصة لتجاوز العتبة المتزايدة، ستختار دعم أحد الأحزاب الكبيرة، لضمان أصواتها. وقد تختار الأحزاب العربية (الموحدة حاليًا) البقاء مستقلة أو الانضمام إلى الحزب اليساري. ولا يمنع هذا النظام السياسي صعود حزب أو حزبين أصغر. ومع هذا، فإن مجموعه من أربعة أو خمسة أحزاب تجعل من السهولة بمكان تشكيل حكومة ائتلافية إذا فشل أي من الأحزاب الكبيرة في الفوز بأغلبية الأصوات.

ومن المؤكد أنه في الوقت الذي قطعت فيه إسرائيل أشواطا هائلة في جميع مناحي الحياة، فإن ديمقراطية إسرائيل آخذة بالتعثر. فبعد 71 عامًا من إقامة الدولة، لم يتمكن الإسرائيليون من التوصل إلى تسوية بشأن نظام سياسي يتجنب هذا النوع من الجمود الذي يؤدي إلى اضطراب اقتصادي مع تقويض الأمن القومي للدولة.