الشرق الأوسط ساحة الصراع

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

عاطف أبو سيف

لم يتوقف الشرق الأوسط عن كونه ساحة تنافس المصالح بين القوى الكبرى منذ بداية المشروع الاستعماري عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى في مطالع القرن الماضي. ومنذ تفكيك الدولة العثمانية وإعمال مبضع الجراح في تقسيم وتمزيق الوطن العربي الذي لم يتحول إلى دولة عربية بل إلى دول وحتى تمزيق العراق وسورية وتفتيت اليمن، وما صاحب ما بات يعرف خطأ بالربيع العربي، ظل الشرق الأوسط الأكثر سخونة في العالم على طوال قرن من الزمن، خاصة بعد أن خمدت نيران الحرب العالمية الثانية وباتت أوروبا أكثر انشغالاً بلملمة جراحها وبناء وحدتها الداخلية تجنباً لاشتعال فتيل الحرب بين دولها مرة أخرى.
ولم يكن الصراع في الساحة الشرق أوسطية يجد ذاته بصراع القوى الكبرى فيما بينها، إذ إن تلك القوى كانت تتجنب الصدام العسكري المباشر بين قواتها، بل كانت عادة ما توكل الآخرين أو تدفعهم لخوض هذه الحروب بالوكالة. وربما من باب الشك القول: إن الكثير من هؤلاء «الآخرين» لم يكونوا ليعرفوا أنهم أُجراء في معارك الآخرين أو أنهم حطب لنيرانهم. والتاريخ الحديث مليء بالشواهد الكثيرة التي يصعب فيها التصديق أن بعض المتقاتلين يمكن أن يكون لهم هدف من وراء الحروب المدمرة التي يخوضونها، لأن نتائج صراعهم الدموي لا تفضي إلى أي من مصالحهم الحقيقية بل إنها تجلب مضارّ أبعد من مقدرة أهدافهم الضيقة على تبصره.
وبالعودة للتاريخ، فإن معاهدة سايكس بيكو ستظل العلامة الفارقة في رسم معالم المستقبل الشرق أوسطي لعشرات السنين اللاحقة وربما لقرون قادمة ما لم يتغير شيء في موازين القوة بالمنطقة. عملت سايكس بيكو على تمزيق البقعة الجغرافية التي كان من المنطقي أن تنشأ فيها دولة عربية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. تم تقاسم الغنائم بطريقة تجعل إمكانية نهوض حتى دولة عربية واحدة في إقليم بعينه أمراً مستحيلاً. والنتائج واضحة حتى اللحظة. لم تنجح دولة عربية واحدة في أن تكون قوة حقيقية في العالم ولا في أن تنهض اقتصادياً أو صناعياً أو تجارياً. لا شيء. حتى الدول التي ستصبح من أغنى دول العالم، وأقصد الدول النفطية، فإن اقتصادها الريعي القائم على عائدات النفط لم يصنع من أي منها دولة كبرى وعظمى. فالقوة لا تعتمد على المال بل على طريقة توظيف المال. التقسيم الذي هدف إلى جعل حالة الشلل العربية مستدامة ولا يمكن تغييرها. ويبدو جلياً صعوبة وربما استحالة فهم ما يجري الآن في بعض الدول العربية من إعادة تجديد واقع سايكس بيكو، ولكن على صعيد الدولة الواحدة من دون العودة إلى تلك اللحظة التاريخية التي تم فيها تقسيم العالم العربي وحرمان العرب من اللحظة التاريخية المهمة التي كان يمكن لهم فيها أن يبدنوا دولتهم التي كان يمكن لها وقتها أن تمتلك مقومات القوى الكبرى من مساحة وخيرات وسكان وموقع وبحار ومحيطات.
وتعزز كل هذا بفرض إسرائيل كدولة في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني. وفي الحقيقة لم يكن هذا الفرض على حساب الشعب الفلسطيني وإن كان أكثر دفعاً للثمن من كل الشعب العربي، بل على حساب الشعب العربي كله. لأن وجود إسرائيل كان يعني استحالة إقامة الدولة العربية الواحدة وبالتالي سهولة تفتيتها عبر الجسم الغريب الذي سيكون عاملاً حاسماً في إبقاء الدول التي تفرعت عن الوطن الأم مشغولة في حروب للدفاع عن نفسها. ولم يمض وقت حتى وجدت جل هذه الدول نفسها تحت التهديد المباشر واحتلت مناطق في بعضها نتيجة الحروب التالية.
قد يبدو هذا بديهياً وعادياً، وهو بالتأكيد من مسلمات النظر إلى القضية الفلسطينية ونشوئها، لكنه رغم هذا يفيد كثيراً في فهم مآلات الحالة العربية الراهنة. وبغض النظر عن سخرية القدر في ذلك لكن الحقيقة أن باروميتر الشرق الأوسط بات يتحدد بطريقة أو بأخرى بمستوى العلاقة مع إسرائيل. وبعبارة أخرى فإن الدولة التي كان هدف وجودها، بعيداً عن ديماغوجية وعد بلفور وتوراتيته، أن تمزق الحالة الافتراضية الموحدة للمنطقة، ظلت تقوم بهذا الدور ولكن بطريقة مختلفة، حيث بات القرب منها ورفض هذا القرب هو من يقرر التوتر العربي الداخلي.
لم يكن الأمر مجرد إبقاء الشرق الأوسط في حالة صراع داخلي وتخليد مصيره ساحة لاشتباك القوى الكبرى، بل إن مشروع الدولة القطرية فيه، التي جاءت على انقاض الدولة القومية، لم ينجح حيث تعثرت تجارب بناء الدولة وتحولها إلى دولة مؤسسات. وظلت جل الدول دولة أفراد. وحتى في البلدان التي وجدت طريقها للاستقلال عبر الكفاح المرير وتحررت بالدماء تعثرت نخبتها المقاتلة ولم تنجح في حمل الدولة إلى مصاف الاستقرار والتقدم. ولم ينزل الرجل عن الحصان بل وقع عنه ووقعت الدولة وغرقت تلك الدول بالديون وتم استلاب المواطنين حرياتهم بحجج واهية كانت نتيجتها أن تمزقت الدولة من الداخل إما إلى طوائف وإثنيات كان يمكن تجاوز تفاعلاتها لو تم الانحياز إلى دولة المواطنين لا دولة الحاكم.
بعبارة أخرى، لا يمكن اعتبار ما يجري في الشرق الأوسط وليد لحظة عابرة، ولا هو صدفة مرتبة في نفس الوقت. إذ إن نتائج مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وبعد ذلك سرقة فلسطين وتشريد أهلها، وفي نفس الوقت تعثر جهود بناء الدولة القطرية وفشل النخب الصاعدة من مرحلة الاستعمار في جعلها دولة قادرة على النمو واستيعاب مواطنيها، كل ذلك قاد إلى واقع بات فيه التداعي أكثر فجاجة مما يمكن التوقع. والنتيجة الحتمية هي أن الشرق الأوسط ظل ساحة وملعباً يتم فيه تنفيذ رغبات الدول الكبرى حتى تبعد الصراع عن تخومها.