يسميها البعض هجوماً أو عملية عسكرية، ويرى آخرون أنها غزو، ويعتبرها أغلب العرب عدواناً تركياً على سوريا، بينما تعتمد أنقرة ووكالتها الإخبارية الرسمية وكذلك الوكالات والقنوات العربية المرتبطة بقطر وجماعة الإخوان تسمية هذا الاجتياح التركي للتراب السوري "عملية نبع السلام"!
بغض النظر عن التسميات التي تعبر عن مواقف أصحابها تجاه تركيا أو تجاه سوريا فإن ما يجري في الشمال السوري الآن هو اعتداء عسكري تركي واضح على سيادة دولة عربية عضو في الأمم المتحدة، وكانت عضواً في جامعة الدول العربية. وبغض النظر عن مواقف البعض من النظام الحاكم في دمشق، تظل سوريا دولة عربية مركزية ذات تأثير ونفوذ لم تستطع سنوات الخراب الربيعي إضعافهما، لذا يبدو الرهان على إخراج سوريا بشكل كامل من معادلة الحرب والسلام في المنطقة رهانا ًغير واقعي إن لم نقل رهاناً غبياً مدفوعا ًبالهوى وبالانحيازات المعبرة عن مواقف مسبقة لا تستجيب لضرورات السياسة. لذا يبدو الموقف العربي شبه الكامل في إدانة الغزو التركي تعبيرا عن مصلحة سياسية عربية بالدرجة الأولى وليس سورية فقط.
لكن، ورغم المواقف المعلنة عربياً ودولياً في شجب الغزو وإدانته ينبغي التفكير بما سبق هذا العدوان وما سيليه. وربما يكون مفيداً التذكير بالحقائق التالية:
أولاً: ليس هذا الغزو التركي هو الأول من نوعه، بل سبقته توغلات صغيرة كثيرة، منها على سبيل المثال دخول القوات التركية إلى الأراضي السورية في الثامن من سبتمبر (أيلول) الماضي للمشاركة في مناورات مشتركة مع القوات الأمريكية الموجودة في شمال سوريا في إطار التفاهم التركي – الأمريكي في شأن ما يسمى بالمنطقة الآمنة.
وسبق ذلك أيضاً توغل تركي أمني كبير في خمس قرى في الشمال السوري في زمن ما قبل الربيع بحجة البحث عن مطلوبين من كوادر وأعضاء حزب العمال الكردستاني قيل إنهم كانوا يختبئون في هذه القرى.
وفي الحالتين لم تكن هناك إدانة عربية للاعتداء التركي.
ثانياً: أثبتت الولايات المتحدة مرة أخرى أنها تدير ظهرها لحلفائها وتتخلى عنهم في اللحظات الحرجة، حين تركت حلفاءها الأكراد في "قوات سوريا الديمقراطية" مكشوفين تماما للاستهداف التركي، ما اضطرهم إلى طلب تدخل الجيش السوري في المنطقة لردع المهاجمين.
وكانت واشنطن قد تخلت قبل ذلك عن "مجاهديها" في سوريا وقبلهم في العراق، وتركتهم لقمة سائغة لضربات التحالف في سوريا ولهجمات الحشد الشعبي في العراق.
وفي الحالتين كانت واشنطن تقدم مصلحتها السياسية على مصلحة أدواتها حتى لو أسفر ذلك عن القضاء عليهم.
ثالثاً: ليس الاستهداف التركي للأكراد قراراً سياسياً آنياً، بل هو امتداد لنهج قديم يربط وجود ومستقبل الأمة التركية بتغييب وإبادة أمم أخرى، وكانت حرب إبادة الأرمن ولا تزال ماثلة في الاستذكار التاريخي لجرائم العثمانيين.
ولعل تجربة الحكم العثماني لأجزاء كبيرة من الأرض العربية تحمل دلالات خطيرة على موقف الأتراك الحقيقي من العرب كأمة.
رابعاً: رغم الخطاب الدعائي التركي الصارخ في تحدي إسرائيل فإن أنقرة تواصل التنسيق مع تل أبيب في حراكها العسكري والأمني في المنطقة، وتتمسك بالتعاون العسكري مع دولة الاحتلال. وهي مستعدة لقطع كل علاقاتها مع الدول العربية للحفاظ على علاقتها بإسرائيل.
خامساً: رغم القناعة المطلقة بحق الأكراد في وطن قومي، ينبغي التذكير بأن هذا الحق لا يعني التنسيق مع إسرائيل على طريقة الملا مصطفى البرازاني، ولا يعني الارتباط بأمريكا على طريقة أكراد سوريا. وربما يكتشف الأكراد الآن أن من مصلحتهم التنسيق والتفاهم والتعايش مع الدول العربية التي يتواجدون فيها كمواطنين.
في الغزو التركي الحالي لسوريا رسائل وإشارات كثيرة، ربما يكون أخطرها تنبيه العرب إلى أنه حان موسم الهجرة السياسية إلى الشمال السوري.