فشلنا في بناء الدولة من أعلى الى أسفل

حجم الخط

بقلم: المحامي زياد أبو زياد

 

السؤال الذي يتردد في البال هذه الأيام هو ما معنى الدولة وما هي مقوماتها وما الذي يعطيها هذا الإسم بجدارة أو يسبلها إياه ، وكيف يمكن أن تُقام الدولة وتتوطد أركانها.

لقد أعلنا قيام الدولة ونردد نشيدها ونرفع علمها وهذا شيء جميل ومنعش والرموز لها أهميتها في معارك التحرر الوطني ولكن أحدا ً لا يجوز أن يقف عند الرموز وإنما يجب أن ينطلق منها لإعطائها مضمونا ً وتجسيدا..

أمس الاول صباحا ً دخلنا جميعا ً في حالة صدمة واكتئاب إثر سماع نبأ استشهاد الشاب فراس عصام الشايب برصاصة طائشة أطلقها أحدهم على رجال جاؤا لتطبيق النظام والقانون ومنع التعديات على النظام العام وعلى حق المواطن بالعيش في وطن يسوده حكم القانون.

لم يكن الشهيد فراس أول ضحية ويبدو – وللأسف الشديد - أنه لن يكون آخر ضحية. وما حدث امس الاول في نابلس ليس مقتصرا على نابلس وإنما نموذجا لحالة تتكرر في مختلف مناطق السلطة وتتجذر كظاهرة في مجتمعنا تتمثل في مأسسة الفوضى والسلاح غير الشرعي وانتشار الجريمة وهيمنة وسيطرة مفهوم العشيرة والقبيلة بسبب غياب مفهوم حكم القانون الذي هو أهم ركيزة لقيام الدولة.

هذه الحالة لا تولد في يوم وليلة وإنما هي وليدة منهج وعملية متدحرجة ما زالت تتدحرج بنا نحو الهاوية إن لم يُبذل جُهد ضخم ومتواصل لوقفها ثم محاصرتها ثم استئصالها وهذا هو التحدي.

وعلينا أن نرى الصورة بشكل متكامل دون أن نتوه ونضيع في تفاصيلها. والصورة متعددة الجوانب من أهم ملامحها أننا ما زلنا نعيش تحت الاحتلال ، وأن جندي من جنود الاحتلال برتبة نفر في التاسعة عشرة من عمره يستطيع أن يوقف سيارة وزير فلسطيني ويطلب هويته ويفتش سيارته ويحتجزه ما راق له من الوقت. وأن هناك سيسة ممنهجة للأحتلال تستهدف المس بهيبة السلطة وتسخيفها في عيون مواطنيها لتسهيل إفشال الحلم الفلسطيني وتكريس الاحتلال.

فهل بعد ذلك يحق لوزير أن يتشدق بأنه وزير حتى لو اعتقد بأن بطاقة الVIP التي يحملها يمكن أن تعطيه امتيازا ً أمام ذلك الجندي لأن من أعطى تلك البطاقة يستطيع أن يسحبها في أي وقت يشاء والأمثلة كثيرة.

أقول هذا لأذكر من نسي بأننا ما زلنا تحت الاحتلال وأن هذه الحقيقة بحد ذاتها يجب أن تكون عاملا ً قويا ً يوحدنا ويضعنا في خندق واحد وهو خندق يتطلب أول ما يتطلب أن نحافظ على الحد الأقصى من الالتزام الاخلاقي والوطني لأنه هو أساس وجودنا. وهذا الالتزام الوطني والأخلاقي لا يقتصر على الضعفاء منا ولكن يجب أن يكون أول هم من هموم الأقوياء والذين ولأسباب يعرفها الجميع أصبحوا غرباء عن هموم ومعاناة الضعفاء من أبناء شعبهم.

نحن أعلنا الدولة منذ عام 1988 وأعدنا إعلانها أكثر من مرة ولكننا لم ننجح حتى اللحظة في تكريس وتثبيت وجودها على الأرض بعد أن تبنينا خطة بناء الدولة من أعلى الى أسفل وليس العكس.

فبناء الدولة من أعلى الى أسفل يمكن أن يتم بخطوة أو خطوتين من الأعلى الى أسفل ثم يتوقف في منتصف الطريق عاجزا ً عن الوصول الى الى القاعدة وهي الشعب فيبقى بناء معلقا ً في الهواء تتجاذبه الأنواء والرياح.

بناء الدولة من أعلى الى أسفل يعني أن يكون هناك رئيس دولة ومسميات للدولة كالوزراء والجنرالات ورؤساء الهيئات والمؤسسات وسيارات تحمل أرقاما حمراء ومباني حكومية وأعلام ترفرف عليها ومواكب تجوب الشوارع ومن أمامها ومن خلفها سيارات شرطة وحرس وزعيق صفارات إنذار ولكن كل ذلك بمعزل عن المواطن البسيط العادي الذي تصبح الدولة عبئا ً عليه وليست مأوى يأوي إليه ، لأن تلك الدولة التي بدأت من أعلى لم تستطع الوصول للمواطن ومعالجة همومه ومتطلباته الأساسية وفي مقدمتها تحقيق الأمن وتأمين لقمة العيش.

نحن بحاجة الى بناء دولة تبدأ من أسفل الى أعلى وليس العكس. دولة تبدأ بفرض سيادة وحكم القانون وتحقق النزاهة وتكافؤ الفرص وتوفر الحماية والأمن للأنسان العادي البسيط الذي لا عشيرة عائلية أو سياسية له تحميه وليس له سوى الإيمان بالتكافل الاجتماعي والمفهوم المدني والحضاري للدولة.

ولا شك بأن تحقيق سيادة حكم القانون هو الأساس الصلب المتين الذي يمكن أن تُقام عليه هياكل الدولة ومؤسساتها فإذا لم نستطع تحقيق ذلك على مستوى القاعدة حتى اليوم فإن علينا أن نعلن بأننا فشلنا في بناء الدولة من أعلى الى أسفل ، وأن نغير هذا المنهج بأن نهبط الى الأرض ونعيد بناء الدولة من جديد من أسفل الى أعلى على أساس ثابت وواضح وهو سيادة حكم القانون والفصل بين السلطات واعتماد المنهج الديمقراطي وترسيخه كأسلوب عمل ونظام حياة.

أنا أحذر وأنبه كل مسؤول حكومي فيما يسمى "دولة فلسطين" بأن الشعب لا يؤيد استنساخ أي نظام عربي لأن كل الأنظمة العربية هي أنظمة فاسدة فاشلة ، وأقول له بأن ما يراه الناس اليوم هو عملية استنساخ لتلك الأنظمة يجب أن تتوقف فورا.

وأضيف بأن بناء الدولة من أسفل الى أعلى يتطلب أن يكون للشعب دور رئيسي في ذلك ليتحمل نصيبه من مسؤولية النجاح والفشل.

وأذكّر كل من يمكن أن يُشكك في قدرات الشعب وإمكانياته بأن شعبنا وقبل قيام السلطة وفي أوج المواجهة مع الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى استطاع أن يحقق الأمن الداخلي وحفظ النظام ذاتيا ً من خلال تشكيل وحدات شعبية " القوات الضاربة " استطاعت تطهير القرى والمخيمات من المخدرات ومن اللصوص والعملاء والخارجين على القانون. ولكن معظم هؤلاء قد عادوا ونشطوا في ظل السلطة وتحت مسمى الدولة.

ولقد آن الأوان لأن تنزل الدولة الى الشارع وأن تبدأ من هناك بتنظيف كل المظاهر السلبية وتطهير بؤر الفساد لأنها إن لم تبدأ بذلك اليوم فسيأتي يوم لن تستطيع فيه عمل شيء سوى أن تتحول هي ذاتها الى جزء منه.

نحن نريد دولة يشعر المواطن بانتمائه لها ويكون جزءا ً منها وليس فريسة وضحية لها.