ياسر عرفات .. لنتحدث بصراحة!

حجم الخط

بقلم: د. دلال عريقات

 

"لنتحدث بصراحة، قد لا تكون هذه الاتفاقية مُلبية لتطلعات البعض منكم، ولكنها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه من تسوية في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة". كانت هذه كلمات أبو عمار للجماهير في مخيم جباليا في الأول من تموز ١٩٩٤، وبعد يومين توجه ياسر عرفات إلى أريحا، عاش الشعب الفلسطيني لحظات وطنية تاريخية وانتشر الأمل بأن التحرر من الاحتلال كان قد بدأ فعلاً، مهمات ضخمة كانت على جدول أعمال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في أرض الوطن. بدأ عرفات مسيرة بناء السلطة الوطنية وإقامة مؤسساتها من قلب قطاع غزة، لم يأبه ياسر عرفات كثيراً للإدارة العامة والهيكليات فقد كان همه الأكبر العودة، القدس، التحرر، دحر الاحتلال، الاستقلال والوحدة.

وبعد العودة لأرض الوطن، وجدنا أن ياسر عرفات احتفظ بعدد كبير من الألقاب والصلاحيات. وِفقَ أسس علم الإدارة العامة، هذا الوضع لا يُعتبر صحياً ولا يمهد لخلق نظام ديمقراطي، فتمركُز الصلاحيات والمناصب والألقاب بيد شخص واحد يعزز أشكال الإدارة المركزية ومبادىء الحكم المطلق، إلا أن مَّا يميز تلك الحقبة هُو أن أفراد الشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه وأماكن تواجده لم يعترض على إعطاء كل هذه الصلاحيات لشخص ياسر عرفات لسبب بسيط وهو أن أبو عمار هو أبو الكل الفلسطيني، وهنا نستذكر هشام شرابي الذي يؤكد في كتابه عن الباترياركية الجديدة (Neo Patriarch) أن المجتمعات العربية تسلم السلطة المطلقة بشكل تقليدي للأب الذي يتحلى بالسلطة المطلقة والكلمة الفصل في صناعة القرار وهذا تماماً ما رآه الفلسطينيون في شخص أبو عمار، هو صاحب السلطة المطلقة لأنه الأب لأنه الحاضن لأنه الفدائي الإنسان والحريص على مصلحة كل فلسطيني. فبالرغم من اختلاف البعض معه أحياناً ولكن لم يختلف أحد عليه.

في ذِكْرَى وفاة ياسر عرفات، أودّ مشاركتكم اليوم قصتين لما لهما من عِبر نتعلمها من هذا الرمز الوطني الحُر، قصتين من وحي حياته ووفاته لتكن عِبرة للأجيال؛

القصة الأولى تتعلق بانتقال مقر انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بخطوة نادرة واستثنائية للإنعقاد في جنيڤ في سويسرا بدلاً من نيويورك عام ١٩٨٨ بسبب ياسر عرفات!! نعم لم توافق الإدارة الأمريكية إصدار الڤيزا لياسر عرفات لدخول الأراضي الأمريكية وامتعضت العديد من الدول الأوروبية من هذا القرار. لقد تم اعتبار ياسر عرفات شخص غير مرغوب فيه! هذا هو التعبير في القانون الدبلوماسي الدولي (persona non grata) الذي تبنته إدارة رايغون الأمريكية لعدم منح تأشيرة لعرفات عام ١٩٨٨ لدخول الولايات المتحدة، بحجة انتمائه او دعمه لأعمال تتعلق بالإرهاب على حسب تعبير جورج شولتز وزير الخارجية الإمريكي في ذلك الوقت. عِلماً أن عرفات كان وبنفس الشهر قد أعلن من الجزائر تغييرات جوهرية من صميم ميثاق منظمة التحرير وأصعبها كان اعتراف المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان منظمة التحرير) بحق اسرائيل بالوجود. وبناءً عليه وللعمل قُدُماً في سبيل تحقيق السلام، كان عرفات يأمل بمخاطبة العالم من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك، كان مُدركاً لأهمية تغيير الصورة النمطية عن الفلسطينيين في عيون العالم وضرورة عودة فلسطين الدبلوماسية للمنصات الدولية.

القصة الثانية هي ما رواه الكابتن طيار المروحية المصري الذي أقل ياسر عرفات من مقر المقاطعة حيث كان محاصراً حينها لتلقي العلاج في باريس حين قَال "شعرت أن الطائرة لا تريد الإقلاع من كثرة الإيادِ والوجوه والأفواه التي كانت تلوح وتنادي وتصلي لأبو عمار في ساحات المقاطعة لحظة الإقلاع". عاد عرفات من باريس جثة هامدة ليُدفن الشهيد الحي فينا جميعاً في فلسطين ولقد أظهرت التحقيقات أن الختيار توفي بعد اغتياله البطيء بمادة البولونيوم القاتلة خلال فترة الحصار اللئيم.

لنتذكر جميعاً أن أبو عمار امتاز في جمع الأضداد وهذا ما نحن بأمس الحاجة إليه اليوم، فلتكن ذِكْرَى ياسر عرفات مُنبهاً لكل الفصائل لإنهاء سنوات الانقسام السوداء وتفعيل الديمقراطية من خلال الانتخابات.