في البحث عن جدوى للحياة

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

الفرق بين الإنسان وغيره من الكائنات أنه واعٍ لوجوده؛ فالسمكة مثلاً تعيش وتموت، دون أن تعي أنها سمكة. بينما الإنسان لم يكفّ عن الفلسفة لحظة واحدة.
«حياة الإنسان سلسلة متصلة من الحاجة والإشباع، تبدأ لحظة ولادته وتنتهي بموته، ليتبدد حينها كل شيء، وما بين الولادة والموت صراعٌ دائم مع الطبيعة، وبحثٌ لا يتوقف عن إشباع الحاجات، حتى لو كانت هذه الحاجات أفكاراً معقدة وأحلاماً رومانسية وعقائد دينية، فهي لن تخرج عن حدود البحث عن الحاجة، أو الرغبة المرصودة في إشباع الحاجات الثانوية، كالحاجة إلى إثبات الذات، أو الإحساس بالقيمة، أو خدمة أيديولوجيا معينة» (سامي لبيب، الحوار المتمدن). لكن الحياة في نهاية المطاف بموت صاحبها تذوب، وتختفي معها كل الذكريات والصور، وتتحول إلى شكل آخر في دورة الطبيعة، كحاسوب معطل تحول إلى منضدة طعام.
بيد أنّ الأفكار لا تموت، بل تنمو وتتطور وتتناقلها الأجيال. ولكن، هل الأفكار وجدت لخدمة الإنسان أم العكس؟ وهل جدوى وجود الإنسان في خدمته للأفكار والعقائد أم أنه اخترع هذه الأفكار ليعطي لوجوده جدوى؟! وماذا بعد كل هذه الحلقات العبثية بين الجوع والشبع والألم والمتعة والراحة والشقاء؟ ما الغاية من هذه الحياة؟! أو بمعنى آخر: هل للوجود نفسه غاية وهدف؟! أم نحن من نعطي للوجود معنى وغاية؟!
في سياق بحثه عن الإجابة، تحايلَ الإنسان على نفسه بطرق شتى: تعاطى مع الأفكار كما لو أنها حقائق، ارتمى في أحضان الجماعة ليقنع نفسه أنه على صواب، سلّمَ عقله على عتبة المقدس، ليدخله من دونه. استسلم للمأثور والغيبي، لعله يجد هناك الأمان النفسي ويحقق السلام الداخلي، أو ليقنع نفسه أن لوجوده معنى عظيماً وغاية أعظم.
تزعم إحدى الإجابات بأن مشكلة الإنسان مع الوجود أنه يفهمه كما يريد وليس كما هو موجود فعلا.. بحيث يضيف إليه إحساسه وانطباعاته ومشاعره، ليخلق منها غاية ومعنى خاصاً به؛ أي أن الإنسان أثناء بحثه عن جدوى للحياة يسقط رغباته وحاجاته على الواقع ليتخيل فكرة ما؛ فاخترع الأسطورة؛ إما ليبتلع ويستسيغ بعض الحقائق المريرة، أو لينجو بنفسه من ظواهر مهلكة، أو ليعيش في غواية أحلام وتصورات تحقق له جملة من الأهداف غير المرئية، بحيث تؤدي غرضها في النهاية، وهو منح الإنسان قيمة ومعنى لوجوده وممارساته. الوطن مثال على ذلك.. يتعامل معه الناس على أنه حقيقة لا تقبل الجدال، على الرغم من أنه حالة متخيلة.
الأديان مثال آخر، أنزلها الله لهداية البشر. ولكن ماذا بشأن الأديان غير السماوية والتي تحمل مضامين أخلاقية مشابهة للأديان السماوية؟ الماديون زعموا أن البشر هم الذين اخترعوا دياناتهم، وقرنوا أنفسهم بإله عظيم، وبهذا الاقتران رفع الإنسانُ من قدر نفسه؛ فقد جعل من نفسه خليفة لهذا الإله.
لكن المؤمنين يؤكدون أن الله كرّم الإنسانَ واصطفاه دون سائر المخلوقات. وفي هذه الحالة نجد أن الإنسان أعطى لنفسه قيمة وجعل لحياته معنى من خلال الأديان.
الدين كان دوماً هو الإجابة الأسهل عن سؤال الوجود، الدين هو حظ كل فرد من الجغرافيا، ونصيبه من التاريخ.. هو نتاج وجوده، وبلا إرادة منه، في بيئة حاضنة تُصدِّر له مشاعر وأحاسيس معينة، مُفعمة بالعاطفة وتدعوه للانتماء له، وهذه البيئة تمنحه الإحساس بالأمان، وتؤمّن حاجته من المأثورات التي تجيب عن أي سؤال.
تزعم إجابة أخرى أن الإنسان طوال رحلة بحثه عن إجابة وهو يتوجس خيفة من اللحظة القادمة، لأنها دوماً تحمل في أحشائها المجهول. ويرفض أن تكون قوانين المادة غير الواعية هي المتحكمة في مصائره ووعيه.. بينما هي تتحكم في كل لحظة قادمة لأنها تحمل معطياتها المادية وقانونها الخاص الذي لا يقبل الخطأ، ولا يقوم على الاحتمالات.
ويزعم آخرون أن قصة الإنسان على الأرض عبارة عن مسرحية عبثية، رغم كل ما يُطرح من رؤى وإسقاطات كثيرة على واقعها، إلا أنها تدهشنا بأن هذا الواقع ليس أكثر من مجرد فانتازيا. والإنسان بوعيه ظل رافضاً لفكرة العبثية واللاجدوى، لأنها تحط من قيمته وتحطم كبرياءه وتجرده من أحلامه.. وتُشعره أنه ليس أكثر من فراشة حطّت على ظهر فيل.. ولتفادي هذا الوقوع المدوّي، صاغ كل نظرياته عن الحياة وقيمتها وأهدافها.. وكان لزاماً عليه أن يؤمن بكل هذا.
ربما كان الإحساس بالجمال وإدراك قيمته والتمتع به هو هاجس الإنسان في الحياة ومعنى وجوده، بل وحتى هاجس الكائنات الأخرى، فالجمال والاحتفال به هو السر الذي أنطق لسان الشاعر، وشحذ عقل العالِم، وأطلق ريشة الفنان... الجمال الذي نراه في جسد المرأة، في تفجر الينابيع والأنهار، في الطبيعة البكر، في تغريد البلابل، وركض الأيائل وعطر الياسمين؛ فالجمال هو نبض القلب، وموسيقى الحياة، وإيقاع الكون المثير.
عندما نتأمل أي لوحة فنية، سنجد أنها بدأت بنقطة، بلا معنى، ولكن بعد أن تكاثفت النقاط والخطوط، تشكلت اللوحة، فأصبحت ذات معنى، أي أن التركيب ومواصلة التطور جعل للبسيط معنى، بعد أن كان مجرد هباء.
مشكلة وعي الإنسان، أنه يعتمد المنتج النهائي، ويحرق كل المراحل التي سبقته، فينظر للمنتج النهائي بانبهار، على الرغم من أن بداياته كانت في غاية البساطة.
الخلق، في بداياته كان أيضاً في غاية البساطة، ولكنه الآن في غاية التعقيد، فإذا كان في بداياته بلا معنى، فنحن البشر نستطيع أن نجعل له معنى وقيمة وجمالاً. فقط علينا أن نؤمن بقيمتنا وجدوى حياتنا.
لا شك أن الإيمان يمنح اليقين والسكينة، وهذا مبتغى الإنسان وغايته، فلماذا نعقّد ما يمكن تبسيطه؟! وإذا كان الإيمان حالة متخيلة، وشعوراً وجدانياً يحقق منفعة مادية للإنسان، فإن هذا يمنحه زخماً إضافياً ويعطيه مصداقية؛ خاصة إذا اقترن هذا الإيمان بالحب، وتخلص من أدران الانتماء العصبوي والطائفي، واتجه كلياً نحو غايته الإنسانية بكل سموها ورفعتها وآفاقها الروحانية.
الإيمان والحب بكل قيمه السامية، يعطيان معنى للحياة، وحتى لو كانا عبارة عن حاجة مادية أخرى تتطلبها النفس الإنسانية، وليسا مجرد مشاعر محلقة وأفكاراً معلقة بالفضاء.. فهما يلبّيان هذه الحاجات بأرقى الأشكال، ويمنحان الإحساس بالمتعة والفرح والتأمل. ويحققان ما يصبوا إليه الإنسان من أمان وصفاء داخلي؛ فهما معاً منفعة وجَدت غايتها، حتى لو كانت إجابتهما عن السؤال ضرباً من الأوهام.