سلام التميمي (9 سنوات) ولد شعره أشقر، عيناه زرقاوان، طفل بوستر لفلسطين، التقيته، الثلاثاء ظهراً، في ساحة بيته في قرية النبي صالح.
في اليوم التالي تحدثتُ هاتفياً مع والده باسم، لماذا سميته سلام، سألت. «لسببين»، قال، «الأول، عندما ولد بدأت في تغيير موقفي حول مقاومة الاحتلال، فقد اعتقدت أن هناك طريقاً أخرى وآمنت أنه يمكن التوصل إلى السلام».
والسبب الثاني؟ سألت.
«السبب الثاني أنه كان لي صديق اسمه سلام، قتله الإسرائيليون خلال الانتفاضة».
يبدو أن هذا هو القَدَر: في الحرب بين اسرائيل وفلسطين يوجد لكل شيء أكثر من سبب، وأحياناً تُكمل الأسباب بعضها؛ واحيانا تناقض بعضها.
يوجد للمظاهرات التي تخرج في كل يوم جمعة من محطة الوقود «الخواجا» على مدخل النبي صالح، أكثر من سبب.
إحدى المظاهرات حدثت يوم الجمعة الماضي وتم تخليدها بفيلم قصير، محمد التميمي (12 سنة)، شقيق سلام، رفع يده وكأنه يخطط لرشق حجر، انقض عليه الجندي وخنقه وهو يئن، فانقضت النساء- ومن بينهن والدة الطفل وشقيقته - على الجندي، وكشفتا وجهه وضربتاه.
الأخت، عهد، عضته في يده، كان يمكن للنتيجة أن تكون أكبر كثيرا، كارثية، لو أن الجندي وزملاءه أطلقوا النار، لكن الصور في الفيلم كانت صعبة، وأظهرت ليس فقط ما يفعله الاحتلال بالفلسطينيين بل ما يفعله الجيش الإسرائيلي، وما يفعله بدولة اسرائيل، وسواء اعترفنا بذلك أم لا، فإن هذا الجندي هو نحن.
النبي صالح قرية صغيرة يعيش فيها 600 نسمة، ومعظم السكان فيها يؤيدون «فتح»؛ وأقلية تؤيد «حماس».
تقع القرية على رأس جبل مرتفع شرق رام الله، ومنزل عائلة التميمي يوجد في الطرف الجنوبي الغربي من القرية، وهو يطل على مشهد طبيعي رائع: الشاطئ والبحر في الغرب، غابة أم صفا في الجنوب، وعلى الهامش مستوطنة كبيرة لها اسمان – حلاميش ونفيه تسوف، وفي الأسفل بين القرية والمستوطنة يمر شارع 465 الذي يبدأ غرب الخط الأخضر وينتهي بشارع رام الله نابلس قرب مستوطنة عوفرا.
بعد سنة 1967 أكثرت من التنزه في هذه الجبال، وكروم الزيتون وبساتين الثمار، القرى الملاصقة للجبل، آبار المياه والينابيع – وكأن كل شيء أُخذ من صفحات التوراة.
ومنذ ذلك الحين ازدادت قوتنا، قرب النبع المتواضع في النبي صالح توجد لافتة باللون البني تشبه لافتات الإرشاد داخل الخط الأخضر، لكنها غير قانونية إطلاقاً، «نبع مئير» كتب على اللافتة.
مئير هو مئير سيغل المتوفى، وهو من مؤسسي المستوطنة، اللافتة التي وضعت بجانب النبع تُذكر بالمتوفى وتمتدحه لإصلاح المكان وتقتبس أغنية ليورام توهرليف: «كان لي نبع بين أعشاب البراري... بقعة الله الصغيرة».
المستوطنون تخلصوا من أعشاب البراري، ووضعوا المقاعد في المكان. هناك طاولات للرحلات تم توزيعها في المنطقة، وتم بناء عريشة خشبية وزرعت أشجار مثمرة مثل الرمان والتين والزيتون والورود، وتم حفر ثلاث برك صغيرة للسباحة، وثمة خط رفيع من الماء يخرج من النبع ويملأ البرك. عندما كنت هناك، هذا الأسبوع، رأيت علما إسرائيليا صغيرا مرميا على الأرض، فحملته وفهمت حينها لماذا انقض النحل علي: شخص عدو قام بقضاء حاجته بالقرب من النبع، وغطى ذلك بعلم اسرائيل، هذا نوع من التظاهر.
إلى النبع
لماذا النبي صالح؟ سألت ضابطا من الجيش الإسرائيلي يخدم في المنطقة. «تبدأ القصة في ارض أشجار الحمضيات، لا سيما الليمون بالقرب من النبع، وداخلها خلية نحل.
في 2009 قام اليهود بإحراق الأشجار من قبل «تدفيع الثمن»، الأرض بملكية شاب من دير نظام، قرية مجاورة، عندها بدأت المظاهرات.
«سألنا مختار النبي صالح لماذا تستمر المظاهرات؟ فأجاب: أولا وقبل كل شيء بسبب النبع، قال. وفحصنا: توجد ثلاث برك مياه كبيرة في اسفل الشارع اعتاد الجنود على الاستحمام فيها، طلبنا من الجنود التوقف عن هذا. أصدر ضابط الآثار في 2012 أمرا بهدم كل ما قام المستوطنون ببنائه حول النبع، لم تنفذ الأوامر حتى الآن – لا أعرف لماذا.
«في 2011 تم الاتفاق على أن يقوم سكان النبي صالح بزيارة النبع خلال أيام الأسبوع باستثناء يوم الجمعة، ليس يوم الجمعة لأن هذا يخلق مشكلة أمنية للمستوطنين، وقد غضبوا جدا في حلاميش، كان الفلسطينيون يأتون للاستفزاز – يضعون العلم الفلسطيني بدل علم اسرائيل ويتسببون بالأضرار.
«وزعموا أيضا أن المستوطنين أقاموا الجدار على أراضيهم الخاصة. وفحصنا: تم بناء الجدار بدون ترخيص، وحدة الرقابة في الإدارة المدنية هدمت الجدار لكنها أبقت الأنقاض على الأرض، الطرفان غضبا – المستوطنون بسبب إزالة الجدار والفلسطينيون لأنهم لا يستطيعون فلاحة أراضيهم.
«تم الاتفاق مع دير نظام: حصلوا على مساعدة من الصليب الأحمر، لكنهم في النبي صالح كانت لهم دائما مطالب جديدة، فقد طلبوا العودة إلى أراض صغيرة تمت مصادرتها في السبعينيات.
فحصنا: كانت الأراضي في قلب المستوطنة، على قطعة من هذه الأراضي أقيمت بركة وعلى اخرى بقالة. فكيف سنعيدها لهم؟.
«مع ذلك، لم نفهم لماذا يستمرون في التظاهر، هناك من قالوا إنه بسبب المال، فهم يحصلون على الأموال من تركيا؛ وهناك من قالوا بسبب الفتيات الأوروبيات اللواتي ينظمن الاحتجاج، يشاهدون فتاة من السويد جاءت للتظاهر، فيخرجون هم أيضا.
«قلنا ذات مرة سنتجاهلهم وليستمروا في التظاهر، لكنهم استمروا في الخروج إلى الشارع ووصلوا إلى بوابة حلاميش وألقوا الزجاجات الحارقة داخل المستوطنة، عندها فهمنا أنه لا مناص، ونحن مضطرون إلى إعادتهم إلى داخل القرية».
سألت باسم التميمي عن سبب التظاهر، «القائمة طويلة»، قال، «الأراضي المصادرة والنبع وأشجار الزيتون التي تم اقتلاعها والمنازل التي تم هدمها والاحتلال بشكل عام، الأرض التي تم الاستيلاء عليها في 2009 كانت السبب للمظاهرات، لكن نضالنا بدأ في 2000 عند اندلاع الانتفاضة».
تم تصوير عهد (14 سنة) قبل ثلاث سنوات وهي تزأر في وجه الجندي. شقراء عيونها زرقاء وطويلة القامة وواثقة من نفسها، هذه الطفلة أصبحت نجمة إعلامية، سألت إذا كانوا حصلوا على الأموال لتمويل المظاهرات.
نفى باسم ذلك: «نحن لا نحصل على الأموال من أي جهة، هناك لجان تنسيق فلسطينية تقوم بالدفع للمحامين، هذا هو كل شيء».
قرية النبي صالح مليئة بالأشخاص الشُقر، قلت، أعتقد أن الجميع يسألون من أين أنتم؟
ضحك وقال: «قبل مئة عام جئنا إلى هنا من الخليل، وحسب الروايات فإن آباءنا من أصل أوروبي، اعتنقوا الإسلام، لكن هذه مجرد روايات».
لقد أصبحت عائلة التميمي بطلة فلسطينية بسبب الفيلم المذكور.
محوهم عن الخريطة
بعد انتهاء «حرب الاستقلال» طلبت اسرائيل محو الأحياء والقرى العربية التي أخليت، في البداية قاموا بإحراق الممتلكات خشية عودة العرب إلى منازلهم، الأمر الذي سرع التدمير، وبعد ذلك، عندما تذكروا وجود مئات آلاف القادمين الجدد الذين يحتاجون إلى المنازل، توقف الهدم وبدأت عملية الإسكان، لكن جهود اخفاء المرحلة التاريخية لم تتوقف.
أسماء الينابيع والجبال والشوارع تم تغييرها إلى العبرية، كانت هذه عملية طبيعية مطلوبة: هكذا يتصرف الشعب الذي يصل بعد ألفي عام إلى دولته المستقلة.
بالنسبة للنواة الصلبة للمستوطنين، فإن حكم مناطق 1967 مثل حكم 1948، ومكانة الضفة مثل مكانة دولة اسرائيل.
قبل بضع سنوات بدأ مجلس متيه بنيامين الإقليمي بحملة لتغيير أسماء كل الينابيع في المنطقة، وليس هناك أساس قانوني لذلك، لكن أيدي الجيش مقيدة. عين بوبين قرب قرية دير بزيع تحولت إلى عين داني، على اسم داني غونين، الذي قتل هناك. وأقيم نصب تذكاري على ارض فلسطينية خاصة، أقامه اوري اريئيل الوزير في الحكومة.
اللافتة التي ترشد للنبع تتقاطع مع لافتة حمراء للدولة تمنع الدخول إلى المنطقة لأسباب أمنية (اللافتات الحمراء خدعة بحد ذاتها فهي تمنع دخول الجميع باستثناء الفلسطينيين، لكنها وضعت من اجل اليهود فقط، العرب الإسرائيليون يمكنهم الدخول، المستوطنون لا يمكنهم لكنهم يدخلون).
كل شيء بغمزة، كل شيء خدعة إسرائيلية، من الناحية القانونية فإن الذي يسيطر على المنطقة هو الجيش الإسرائيلي: هو الذي يقرر، أما على ارض الواقع فإن من يسيطر هم المستوطنون، وقيادة المستوطنين تطلب أن تفعل بالفلسطينيين ما تفعله بالينابيع – محوهم من الخريطة، هذا هو حلم الاستيطان؛ وهذا هو الحلم السياسي.
المشكلة لا تتعلق بسموتريتش أو أوري اريئيل: إنهما يتصرفان حسب إيمانهما، آباؤنا قالوا لم يسرق العكبرة بل سرق الحور، الحور هو الجيش الإسرائيلي؛ الجهاز القضائي؛ الحكومة. في المجلس الوزاري المصغر للحكومة الحالية توجد أغلبية للوبي المستوطنين؛ وزراء «البيت اليهودي» يؤيدونهم، وزراء «الليكود» يؤيدونهم، ورمز اليسار في المجلس الوزاري المصغر هو آريه درعي، وهو عامل التوازن، وفيما يتعلق بشؤون المستوطنات ينضم إليه أحيانا بوغي يعلون، الذي أهانه المستوطنون، وهو لم يغفر.
يتحدث نتنياهو عن أفق سياسي، لكن الأفق هو الأفق، لن يأتي، الكل يفهم هذا – الآن أبو مازن يفهمه أيضا، وفي أحسن الحالات، حل الدولتين حكم عليه بالسجن المؤبد؛ وفي أسوأ الحالات، هذا الحل تم إعدامه.
نشر أبو مازن إعلانا، هذا الأسبوع، حول نية الاستقالة من جميع مهامه. نتنياهو ويعلون على يقين أن الحديث يدور عن لعبة كراسي: أبو مازن يريد إقالة عدد من خصومه وإحضار عدد من المقربين، وهذا لا يجب أن يقلق اسرائيل.
هذا التفسير مقبول من بعض الجهات الفلسطينية، قد يكون صحيحا، كما يحذر الجيش الإسرائيلي، وقد يكون غير صحيح. هناك إشارات متناقضة. أبو مازن متردد: لم يقرر بعد توجهه. خيبة الأمل والغضب واليأس حقيقية.
يحتمل أن يتحول خطاب أبو مازن في الأمم المتحدة في نهاية أيلول إلى خطاب مفصلي، خطاب يغير الواقع.
الذكرى السنوية الـ 22 لاتفاقات أوسلو على الأبواب، وقد يعلن عن إلغاء الاتفاقات، بعضها أو جميعها. ومن بين وعود «أوسلو» بقي اثنان فقط هما اتفاق باريس لترتيب العلاقات الاقتصادية والتنسيق الأمني، وقد يقوم بإلغاء الأول، أو الثاني أيضا، وقد يعلن عن حل السلطة وإلقاء مسؤولية السكان على حكومة اسرائيل.
يمكن أن يكون القلق مبالغا فيه.. لكن الحديث هنا ليس عن الاختلاف في التقديرات، فنتنياهو يعتبر أبو مازن عدوا، ويعتبر الصراع السياسي حربا، وهو يريد تعزيز «حماس» لأن أبو مازن يهدده في الساحة الدولية، أما «حماس» فلا تهدده. اسرائيل كان يمكنها السعي إلى وقف إطلاق النار مع «حماس» بوساطة أبو مازن، يرفض نتنياهو ، وهو يسعى إلى وقف إطلاق النار مع «حماس» ضد أبو مازن.
عن «يديعوت»
قصة جاري الحمار، وحمار الحكيم!
04 ديسمبر 2024