عين معاذ عمارنة

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

عاطف أبو سيف

فقط في بلادنا هناك من يطلق النار على عين مصور من أجل أن يمنعه من تصوير جرائمه. فقط في بلادنا ما زال هناك احتلال يواصل افتراس الحقيقة بكل بشاعة دون خوف من عقاب ولا ملتفت لقانون أو عواقب. فقط في بلادنا يمكن لجندي أبله أن يطلق النار على عجوز هرمة تجاوزت السبعين أو على طفل لم يستو بعد في وقفته. فقط في بلادنا يتجرأ الجنود المحتلون على تجاوز حدود الإنسانية ويعتدون على الشجر والثمر كما على المزارع البسيط الذي سقاها بعرق جبينه. وفقط في بلادنا تغيب الحرية لأن يد البطش ما زالت تمسك بعنق شعب يرسخ تحت الاحتلال في آخر جرائم العصر.
عين معاذ عمارنة التي أطلق الجندي الرصاص عليها، من أجل أن يمنعها عن مواصلة توثيق جرائمه، هي تجسيد للحقيقة التي لا يريد الجندي ولا الجنرالات الذين أرسلوه أن يراها أحد. الحقيقة التي تكشف بشاعة ما يجري على الأرض وفظاعة ما يرتكب من جرائم بحق الشعب الأعزل الذي لا يطلب شيئاً إلا أرضه وحريته. الجندي الذي أراد أن يواصل غيه وطغيانه بحق المزارعين لم يرد من يعكر مزاجه الدموي ويقطع عليه لذته الفاشية، فأراد أن يطيح بالعين الذي تنقل ما ترى وتفضح ما تقشعر له الأبدان. إنه ذات الجندي الذي بقر بطون الحوامل في دير ياسين وأطلق النار على امرأة ثمانينية وهو يخرجها من بيتها على شاطئ يافا، وأغرق مركباً للصيادين قرب غزة وأحرق المصنع على عامليه في المجدل، ذات الجندي الذي أطلق النار على الفلاحين وهم يحصدون القمح أو يقطفون الزيتون، ذات الجندي الذي قتل محمد الدرة وهو يحتمي بأبيه، وأسقط مئات القنابل على بيوت المواطنين في غزة فقتل عشرات العائلات. الجندي ذاته الذي يمنع المصلين من الوصول إلى أماكن عبادتهم للوقوف بين يدي الله. الجندي الذي يقف خلف الحاجز بصلف مستمتعاً بعذابات النسوة والكهول والأطفال، لا يأبه إن جاء إحداهن المخاض وهي تنتظر أو إن فارقت الحياة جسد كهل وهو يتمنى أن يرى أحفاده قبل الرحيل. الجندي الذي أخذ عين معاذ ذاته الجندي الذي يحمل وزر أكثر من سبعين عاماً من القتل والتنكيل والبطش. إنه ذات الجندي الذي قتل راشيل كوري وهي تقول لا للاحتلال، وأطلق النار على غسان كنفاني لأنه بحث عن حق شعبه وعلى ماجد أبو شرار الباحث عن العدالة في عالم مرير، وهو ذات الجندي الذي قتل أحمد أبو حسين جاري الطيب في المخيم وهو يصور الحالمين بالعودة وقتل الصحافي ياسر مرتجى وهو يحمل كاميرته بحثاً عن الحقيقة. إنه ذات الجندي الذي يمسك بالبندقية تحت النافذة يرهب الأطفال وهو يستعدون للذهاب للمدرسة. الجندي الذي لا يرى العالم إلا من فوهة بندقيته دون ريب ولا وجل، دون إنسانية ولا أخلاق.
قبل أيام، منعت وزيرة الثقافة الإسرائيلية عرض فيلم للمحامية الإسرائيلية ليئا تسيمل، تتحدث فيه عن تجربتها في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، كما منعت قبل ذلك عشرات الأفلام ومنعت دخول آلاف الكتب إلى فلسطين وتداهم المؤسسات الثقافية في كل مكان، خاصة في القدس، وتمنع أي نشاطات ثقافية هناك وتفرض ضرائب على المؤسسات الثقافية وتحرم الكتاب والفنانين من المشاركة في فعاليات داخل المدينة المحاصرة؛ بغية عزلها ثقافياً كما سياسياً واقتصادياً تنفيذاً واستكمالاً لسياسات العزل والفصل العنصري التي تمارسها بحقنا منذ عشرات السنين. أي ثقافة في منع فيلم يتحدث عن تجرية ذاتية في العمل بالقانون. إنه ذات الرعب الذي أصاب الجندي وهو يرى معاذ عمارنة وهو يصور بكاميرته ما يجري على الأرض. لم يكن معاذ يختلق حقيقة مغايرة عما يجري، كما لم يكن يركب مشاهد خيالية، كان يصور ما يراه الإنسان كل يوم وكل ساعة في فلسطين حيث يبطش الجنود بالناس، لكن ما رآه معاذ وما وثقته كاميرته هو ذاته ما يخشاه الجندي الذي يريد أن يواصل جرائمه بعيداً عن العالم. أيضاً ما تتحدث عنه المحامية تسيمل هو ما يخشاه السجان الذي يتلذذ بتعذيب آلاف الأبطال ويحرمهم هواء الحرية كما يحرمهم ضمة الأم ودفء العائلة. إن حجب الحقيقة كان وما زال هاجس القاتل المختبئ بصمت في ظل قانون دولي عاجز عن ردعه.
لقد تمتعت إسرائيل طوال عشرات السنين بحماية غير مباشرة من المجتمع الدولي الصامت على جرائمها. صحيح أنها تتمتع بحماية مباشرة من بعض القوى الظلامية في المجتمع الدولي ممن يؤيدون جرائمها ويسعون معها لاغتيال الحقوق الوطنية الفلسطينية عبر صفقات ومؤامرات تنتهك القانون الدولي في أصوله ومبادئه، إلا أنها إلى جانب هذا تمتعت بالتغطية والحماية من القانون الدولي بفعل عجز المؤسسات الدولية عن اتخاذ إجراءات رادعة لها تحمي الشعب الواقع تحت الاحتلال وتمنع الجنود من البطش بالأبرياء. لا شيء أكثر من هذه البساطة، لكن لا شيء أكثر بشاعة من تلك الحقيقة التي يصبح فيها القانون عاجزاً عن أي قوة.
لم تكن هذه عين معاذ، بل عين الحقيقة الفلسطينية التي يريدون أن تطفأ، يريدون لها أن يخمد وهجها وتتعطل. إنها العين التي لن تتوقف وستظل توثق الجرائم وتبحث عن الحياة وتفاصيلها رغم كل ما يجري من قتل وتشريد واقتلاع. عين معاذ التي لم تنطفأ ستظل شاهدة على أبشع جرائم العصر حين يتم اغتيال الحقيقة وحين يكون هاجس القاتل ليس الاختباء بل قتل كل من يراه دون رادع أو وازع. إن الصمت الذي يظهر في الأفق يجب أن يشعر العالم بالخجل أمام تمادي إسرائيل في استباحة حرمة المجتمع الدولي وانتهاك كل القيم حين تقتلع عين العالم.