حين يغضب الشعب

رجب أبو سرية.jpg
حجم الخط

رجب أبو سرية

أقل ما يقال في النخبة الحاكمة في إسرائيل والولايات المتحدة معاً، هو أنهما لا تريان أبعد من أنفيهما، وأنهما تظنان بأن من يصنع السياسة، الوقائع والتاريخ، هي النخب السياسية الحاكمة، وأنهما لا تقيمان وزناً للجموع الشعبية، حتى في بلديهما، حيث تكشف الكثير من المناسبات الجذر العنصري لفكرهما السياسي، فقد اظهر دونالد ترامب قدراً كافياً من الجنوح العنصري بالنظر إلى كراهيته لكل من هم من أصل أفريقي، آسيوي، من مواطني دولته، وتجاه المهاجرين من دول الجوار، من مكسيكيين وغيرهم، وكذلك فعل بنيامين نتنياهو الذي جن جنونه لمجرد وجود احتمال لخصمه بيني غانتس بتشكيل الحكومة الإسرائيلية بالاعتماد على الدعم الخارجي للقائمة العربية، رغم أنها تمثل نحو 20% من مواطني دولته.
ولا يقيم الرجلان مع ما يمثلانه من نخبة سياسية يمينية متطرفة، وهما متشابهان حتى في مثولهما أمام القضاء، ومتوافقان تماماً، فيما يخص السياسة تجاه ملفات الشرق الأوسط، خاصة ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، أي وزن لأكثر من أربعمائة مليون عربي، ولا لنحو مليار ونصف مسلم، حين يريان خنوع وانحناء الحكام العرب أمام سطوهما وجبروتهما، وبالمنطق ذاته نسيا وجود الشعب الفلسطيني بملايينه الخمسة في القدس والضفة والقطاع، كما تجاهل نتنياهو المليون ونصف مليون من مواطني دولته، حتى وهم يظفرون بثلاثة عشر مقعدا في الكنيست، لذا فقد أطلقا العنان لحرب سياسية غير مسبوقة، بدآها، بالإعلان الخاص بالقدس، وبجملة الإجراءات ضد السلطة الفلسطينية، ولم ينهياها بعد بإعلان أن المستوطنات لا تتعارض مع القانون الدولي.
في حقيقة الأمر فإن العقلاء يعرفون ما لا يعرفه ترامب بشكل خاص، وما نسيه نتنياهو من أن جبروت القوة، والحسابات الضيقة، إنما هي نقطة ضعف الأقوياء، وكما يقول المثل «إن كنت ناسي أفكرك»، فإذا كان نتنياهو قد رسم سياسته كلها، منذ أكثر من عقد من السنين تولى خلالها السلطة بشكل متواصل، على أساس بث الفرقة بين حركتي حماس وفتح، وحقق نجاحات نسبية في هذا المجال، إلا أنه نسي ما يحدثه ذلك من تراكم ومن ثم في لحظة لاحقة من تغيير كيفي، في معادلة الصراع، فقد نسي أن لدى الشعب الفلسطيني قوة ردع توازي القنبلة النووية بالسياسة وهي قوة الشعب نفسه.
فحين انسد الأفق بعد خروج الثورة من لبنان وتراجع القوة العسكرية الفلسطينية التي كانت تقاتل إسرائيل من لبنان، بعد عام 1982، احتاج الشعب الفلسطيني إلى ثماني سنوات ليطلق انتفاضته الشعبية التي قلبت الطاولة في وجه إسرائيل، وأجبرتها على الاعتراف بالوجود السياسي للشعب الفلسطيني، والتوقيع مع ممثله الشرعي والوحيد (م ت ف) على اتفاقات فتحت الباب للكينونة السياسية الفلسطينية على الأرض، والتي ما زالت قائمة وتقوم بشكل حثيث بتثبيت فكرة الدولة الفلسطينية على الأرض وفي المحافل الدولية كلها.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يمثله ويقوده، بأن اتفاقات أوسلو ما هي إلا حبر على ورق، فإن الشعب الفلسطيني بأسره يعتبر القرارات الإسرائيلية والإعلانات الأميركية الخاصة بالقدس والمستوطنات، مجرد حبر على ورق، ولا قيمة لها، لذا فإن كل ما تفعله مثل هذه القرارات والإعلانات هو تأجيج الصراع ميدانيا مجددا، ولعل خروج وحش المستوطنين من قمقمه خلال الأيام الأخيرة خير تعبير عن ذلك.
لذا فإن الرد لا يمكن أن يقتصر على إعلان الرفض السياسي، ولا يمكن له أن ينحصر فقط في إطار الجبهة السياسية والدبلوماسية، وإذا كانت فلسطين تجد معها كل العالم في تلك الجبهة، حيث أكد العالم بأسره على شذوذ الموقف الأميركي الذي رفضه حتى الديمقراطيون في الولايات المتحدة، بل ونحو ثلث أعضاء الكونغرس الذين طالبوا وزير الخارجية الذاهب للاستقالة بالتراجع عن إعلانه الخاص بالاستيطان، فإن الرد الميداني هو الحاسم، وهو الذي يفرض على العدوان السياسي الأميركي والميداني الإسرائيلي الانكفاء والتراجع.
وفي إسرائيل، قد لا نبالغ بالقول بأن أحد أهم أسباب الشلل الداخلي، هو تنامي الخشية من أن تؤدي سياسة نتنياهو المتطرفة إلى حرق الأرض تحت أقدام إسرائيل، والى أن تفرض عليها في نهاية المطاف حلا بعيد المدى لكنه مدمر، لذا فقد بدأت كرة الثلج بالتدحرج، جامعة بين طياتها، رجالات الأمن وأحزاب اليسار والوسط، التي باتت تخشى فعلاً من الانحدار اليميني/الديني للدولة، وصحيح أن شعارات خصوم اليمين ما زالت ذات طابع داخلي، إلا أن التحول الذي لابد أن يحدث لن يقف عند تلك الحدود، بل سيقوم بمراجعة الموقف السياسي تجاه الملف الفلسطيني.
كثير من فصول المقاومة الشعبية حدثت خلال السنوات القليلة الماضية، إن كان تلك التي حدثت في القدس، أو على حدود قطاع غزة، أو بين جنبات الضفة الغربية، وكلها تجاوزت فواصل الانقسام الداخلي، لتؤكد على أن الشعب في لحظة فارقة وحاسمة يتدخل بحسه العفوي وبمجسات الشعور الوطني التي تقرأ ما هو استراتيجي، فتطلق قوتها العاتية في اللحظة المناسبة.
يبقى الرد الشعبي الفلسطيني هو أبلغ رد على العنجهية الإسرائيلية وعلى التواطؤ الأميركي العدواني، الذي يشد على يد الاحتلال، ويسعى إلى أن يبيض صفحته السوداء، لذا فإن إعلانه الغضب يعني بأننا صرنا أمام التحذير الذي ينطوي عليه المثل الشعبي الذي يقول «احذروا غضب الحليم إذا غضب»، وفي هذا اليوم لا يعلن الشعب الفلسطيني عن غضبه إزاء الإعلان الأميركي وحسب، بل يعلن عن انتفاضته الثالثة وعن دخوله معترك الكفاح الوطني بشكل مباشر، ومتجاوز لكل مظاهر الانقسام والصراع على السلطة، وهذا هو العامل الحاسم، الذي لن يطول معه الوقت لتتضح صورة قادمة، مفادها بأن قلب الطاولة قد بدأ، وأن كل ما حققه نتنياهو من «انجازات تطبيعية» مع  بعض حكام العرب الخليجيين لن ينفع إسرائيل بشيء، لأن من يريد أن يمضي بعيدا، عليه أن يحل مشاكله داخل البيت أولاً، وهذا ليس تكتيكاً سياسياً، بل هو جوهر السياسة التي ترى ما هو أبعد من أنفها، وترى ما لا تراه العيون المعمية بجبروت القوة والقهر.