الكوفية الفلسطينية، وموسوعة غينيس

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

يستعد طلبة مدارس دورا/ الخليل لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية، لأكبر كوفية فلسطينية، تصل مساحتها نحو 3000 متر مربع. وقد قوبلت هذه المبادرة بحملة استهجان وسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهذه ليست المبادرة الأولى من نوعها؛ ففي الذكرى الـ62 للنكبة قام ناشطون لبنانيون وفلسطينيون في بيروت بعرض كوفية فلسطينية ضخمة، طولها 6500 متر، كُتب على طرفيها عبارة «194، سنعود»؛ محطمين رقما قياسيا سابقا لأطول كوفية، سُجّل في إسبانيا، بطول 2900 م.
أغلبية الناس تنتقد هذه المبادرات، وتعتبرها مادة للتهكم والتندر، ومنهم من يصب جام غضبه على مطلقيها، بتوصيفات قاسية، ومنهم من يوسع دائرة اللوم والانتقاد لتشمل الشعب بأسره، أو السلطة الوطنية. 
بداية، لا يجوز انتقاد شعب بأكمله على أي مسألة مهما كانت؛ فالشعب ليس كتلة واحدة، هو عدد لا محدود من الحالات المتباينة، وطيف واسع من التيارات الفكرية المتنوعة، والتوجهات السياسية المختلفة، وما لا حصر له من الأمزجة وطرائق التفكير.. ولا توجد في السلطة الوطنية (ولا في أي كيان سياسي آخر) دائرة متخصصة بإطلاق مثل هذا النوع من المبادرات.. هذه المبادرات يطلقها عادة أفراد أو مجموعات معينة.. وهي حق مكفول للجميع، ودليل على حيوية أي مجتمع. 
لن أناقش هنا مدى صوابية استخدام الكوفية لدخول موسوعة غينيس، أو نجاعة هذا الأسلوب في توصيل الفكرة.. فمن وجهة نظر المؤيدين هي تجسيد لرمزية الكوفية، وإبراز أهميتها في الثقافة والتراث والنضال الفلسطيني، وترسيخ لمكانتها في العالم كأيقونة للقضية الفلسطينية، والنضال ضد الظلم، تستخدمها كل حركات التحرر العالمية.. ومن وجهة نظر المعارضين، هي تقزيم لهذه الرمزية، وتشويه لها، وإساءة لتاريخ الكوفية التي ظلت لعقود على رؤوس وأكتاف الفدائيين.
ما أود مناقشته هنا، فكرة المشاركة في موسوعة غينيس.
لديَّ عدة أجزاء من موسوعة غينيس، وبالإطلاع عليها، وجدتُ أن الأغلبية الساحقة من الأرقام التي تم تحطيمها تأتي في مجالات سطحية، وغير مفيدة، ومضحكة.. وربما من هنا تبرز أهمية هذه الموسوعة.. إذْ ليس بالضرورة أن تكون تلك الأرقام مفيدة للبشرية؛ فقد تكون مفيدة لأصحابها فقط، أو لمحيطهم الاجتماعي، أو لنطاقهم الجغرافي الضيق، وأحيانا لا يستفيد منها أحد، إلا منتجي الأفلام الوثائقية التي تتناولها، أو القائمين على الموسوعة.. ويبدو أن فكرة تحطيم الأرقام القياسية هي سمة هذا العصر، وتكتسب أهمية متزايدة في عالم تسويق المنتجات والأفكار، والدعاية بكل أنواعها (التجارية، والسياحية، والسياسية، وحتى الأيديولوجية).
مجالات الإبداع الحقيقية التي تفيد البشرية، كالعلوم والفضاء والطب والاختراعات.. ليس مكانها موسوعة غينيس، لديها محافلها، وجوائزها، وإصداراتها الخاصة.
في موسوعة غينيس ستجد أشخاصا ومؤسسات من مختلف بلاد الدنيا، بما فيها أكثر الدول تقدما، حققوا أرقاما قياسية في مواضيع عادية جدا، أو سخيفة جدا.. ولم يتعرضوا لحملات تجريح وتشويه كما يحدث في مجتمعاتنا.
وهناك دول فقيرة وأخرى منسية عرفها العالم من خلال موسوعة غينيس، أو من خلال مسابقة رياضية، أو مسابقة طبخ.. تقابلها دول لديها إمكانيات مادية جيدة، وتاريخ تباهي به.. ومع ذلك لم تسجل أي أرقام قياسية من أي نوع.. ولم تحقق أي منجزات مهما كانت ضئيلة ورمزية. وهناك دول شبه منسية، لا نسمع عنها لا في غينيس، ولا حتى في نشرات الأخبار.
لماذا يوجه اللوم للفلسطينيين فقط، دون غيرهم من الشعوب!! أو بقول آخر: لماذا نلوم أنفسنا دوما؟ مع العلم أن الفلسطينيين سجلوا أرقاما قياسية غير مسبوقة في البطولة والتضحية والصمود، على سبيل المثال مرّغ أصغر طفل كرامة أعتى دبابة، وبلغ أسرانا البواسل أرقاما لم يسبقهم إليها بشر من قبل في التحمل وعدد أيام الإضراب، وسنوات السجن، والأحكام الطويلة، وسطّر الفدائي الفلسطيني قصصا في الشجاعة يتعذر تحويلها إلى أرقام مجردة.
صحيح أن المبادرات الفلسطينية التي دخلت غينيس، تكاد تقتصر على مواضيع ليست ذات قيمة عظمى (أكبر صحن تبولة، وأكبر سدر كنافة..)، ولكن ما المانع؟ هل يمنع ذلك أصحاب الهمم العالية والمخترعات الفظيعة والمنجزات الضخمة من تسجيل أرقامهم؟ هل أخّرت تلك الأرقام تحرير فلسطين؟ هل عطلت مشاريع التنمية؟ هل أعاقت عمليات التحرر الاجتماعي؟ لماذا لا نقبل فكرة أننا شعب عادي! لدينا مثلما لدى بقية الشعوب: منجزات مهمة، وأخرى غير مهمة.. منجزات وطنية نباهي بها، ومنجزات فردية ليس مطلوبا من الجميع أن يفتخر بها.  
لماذا لا نلوم العباقرة، والمختصين، والعلماء، والرياضيين وغيرهم ممن يزاولون أعمالهم بصورة رتيبة مملة ليس فيها أي تميز أو خروج عن المألوف؟ هذا إذا لم نقل إن بعضهم كان مقصرا أو فاشلا في عمله.
الموضوع ليس غينيس، يبدو أن هنالك فئات من الناس هوايتهم جلد الذات، وتسخيف كل شيء.. يرون الدنيا من منظور قاتم.. هؤلاء لا ينشرون سوى ثقافة الإحباط والتيئيس.
في كل يوم تقريبا، يسقط شهيد، أو يعتقل مناضل، أو يهدم الاحتلال منزلا، أو يشن عدوانا على غزة.. حينها، جميعنا يحزن، ويغضب، ويتألم، ويتعاطف مع الضحايا، ويقتله شعور العجز والضعف.. وتلك مشاعر إنسانية نبيلة.. لكن المستغرب انتشار موجة غير عادية من جلد الذات، تتحول إلى بكائيات كربلائية، ولطميات.
جَلد الذات بهذه الطريقة يخلق حالة من الارتباك، والحيرة، ويعمق الشعور بالعجز.. تأثيرها السلبي يكون مضاعفا لدى ملايين الفتية والشبان، فبدلا من تعزيز مشاعر الثقة بالنفس والأمل بالمستقبل، تتزايد لديهم مشاعر الهوان، وانعدام الأمل، حتى ينخرطوا في لعب دور الضحية، فلا يعود بمقدورهم فعل شيء حقيقي. 
قد يكون بعض من يبرعون في تصدير شعارات الإحباط «ماسوشيين»، وبعضهم همّهم الأول تبرئة ذواتهم، وإراحة ضمائرهم المنهكة، بنَفس استعلائي، وعقلية تطهرية، تلقي باللوم دوما على الآخرين.. كل ما عليهم فعله، كتابة منشور ثوري على فيسبوك..
انتقد بموضوعية وروح مسؤولة، ولكن، لا داعي أن تنصّب نفسك حكما على كل شيء.. ليس مطلوبا منك إبداء الرأي إزاء كل ما تراه، أو تسمع عنه.. اعمل، بادر، تحرك.. أو دع غيرك يتحرك، واتركه في شأنه.