في وداع الصديق أحمد عبد الرحمن

حجم الخط

بقلم: اللواء جبريل الرجوب

 

لكَ يا صديقي الحيّ جُرأةُ الموسيقى، وفي صوتك شرايينُ الشهداء ودمع الجُلنّار الحزين. وفي ناظريك مقاصل الليل التي أودت بِدير ياسين وقانا. وبين يديك السريّس الذي امتصّ ريق الصخر المغسول بدم الشيخ. وعلى قدميك البلّور النادي في الفجر. وفي ظهرك تتنفّس البشرية الخارجة إلى خلاصها، والضبع يلوك حقائب صغارها المذعورين.

ومن فوقك غزلان الغيم لحارسة الساحل الأبجديات والزيت والقلاع. وفي كل خليّة تنبض في جُرْمكَ، تتضوّع القدسُ بزيتونها وقبابها وشرفاتها الباذخة، باللبلاب والمنثور. وفي غَدِكَ موّال النّصر وانبلاج الغرف وأجراس القوافل العائدة بالحنّاء.

وفينا أنتَ وأنتَ. ويكفي أنكَ أنت.

أحمد !

ألفدائيّ الذي استعصى على مربعات الاحتواء، وعلى الحذف والإلغاء والإضافة، انفجرت نهايته بين يديه، فالاحتلال المجرم ضاق به ذرعاً، وكان يريده بحجم كفّه الفولاذي الضئيل، لكنه طائر من أرض العماليق يئزّ على المنارات، فيشعلها بوعوده الأكيدة، إنه الآن حُرّ مثل مُلصقه الذي يحرس المدينةَ والناسُ نيام.

أحمد !

هكذا كنا نُناديه، أحمد، في الإذاعة في فلسطين الثورة، وفي الإعلام الموحد، وفي كل موقع شغله، وهو الأخ الكبير الرفيق والمعلم والصديق والموجه والقائد. كانت الإشارة إليه لأول مرّة عام 1971، في إذاعة صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية، التي كانت تبث برامجها من مدينة درعا السورية جنوب دمشق. كان القائد وربان السفينة لمجموعة طليعية من الكتاب والصحفيين والإذاعيين والفنيينَ. ألقيت على عاتقهم مسؤوليات جسيمة في التعبئة الوطنية، وشحذ الهمم، ونقل أخبار الثورة لشعبنا في الداخل والشتات ولقواعد الثورة الفلسطينية ومقاتليها.

كانت إذاعة درعا في خط المواجهة الأول بين مقاتلي الثورة المنتشرين في الجنوب السوري، وعلى حدود القنيطرة وفلسطين المحتلة، وكانت الكلمة التي يكتبها أحمد وتنطلق من الإذاعة بصوته الإذاعي الجميل، ولغته البليغة، أو بصوت الحاج خالد مسمار، أو يحيى العمري، أو عطية شعث، هي الكلمة المعبرة عن الطلقة الشجاعة، التي أطلقتها قوات العاصفة في الفاتح من كانون الأول 1965. إذاعة درعا بقيادة الأخ أحمد عبد الرحمن "أبو يزن" كانت غذاء الفدائيين لساعتين كل يوم، وكانت إذا ما حصل أي اشتباك بين قوات الثورة الفلسطينية، وجيش الاحتلال في جنوب لبنان، تمدد البث لساعات من أناشيد الثورة والبيانات العسكرية والتعليقات التعبوية، المتتابعة التي كان لأحمد النصيبُ الأكبر منها. كانت إذاعة درعا قاعدة ثورية متقدمة وملتقى لقادة الوحدات والكتائب الفدائية المنتشرة في المنطقة، إلى ما قبل حرب تشرين أكتوبر بأيام معدودات، وقبل أن تداهم المخابرات السورية مقر الإذاعة وتقتاد العاملين فيها إلى سجن المزة العسكري في دمشق، وعلى رأسهم أحمد، وتضع كل واحد منهم في زنزانة منفردة، ولم تفرج عن أحمد وطاقم الإذاعة إلا بعد جهود مكثفة بذلها القائد أبو عمار والأخوة في اللجنة المركزية لحركة فتح. ويقول العماد حكمت الشهابي، الذي حضر إلى سجن المزة لأحمد مبرراً إغلاق الإذاعة واعتقاله: لقد حصل بيننا تقاطع في المواقف، وستظل سوريا داعمةً للمقاومة الفلسطينية وحركة فتح، وما هي إلا أيام حتى اندلعت حرب تشرين. فطلب أحمد من كادر الإذاعة التوجه إلى العراق للمشاركة في إدارة إذاعة "صوت الثورة الفلسطينية" من بغداد، وكان هذا القرار عاملاً رئيسياً في تنشيط بث الإذاعة هناك واستمراره على مدار الساعة أثناء الحرب.

ومع نهاية الحرب، وتثبيت وقف إطلاق النار، تم سحب طاقم الإذاعة من بغداد، ليعود إلى دمشق ثم إلى بيروت، إذ صدر قرارٌ نهاية العام 1973، من الأخ أبو عمار بتولي أحمد عبد الرحمن رئاسة تحرير مجلة "فلسطين الثورة"، الصحيفة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان قد مضى على إصدارها في نطاق الإعلام الموحد نحو عام ونصف. كانت فلسطين الثورة مركزا إعلامياً ثورياً تحت رئاسة أحمد عبد الرحمن وداراً للنشر، وملتقى لقيادات الثورة الفلسطينية وكوادرها، وأصدرت عشرات الكتب والدواوين الشعرية، والملصقات، والحملات السنوية في ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية، واستقطبت أقلام الكتاب والشعراء، والصحفيين الفلسطينيين والعرب، وكانت صوتاً للثورة الفلسطينية والتقدميين وحركات التحرر والأحرار في العالم.

وكانت الافتتاحيات التي يكتبها أحمد عبد الرحمن، ويضع توقيعه عليها بمثابة الموقف الرسمي والتوجيه الأسبوعي لمنظمة التحرير الفلسطينية وللأخ أبو عمار. ظلت فلسطين الثورة تحت راية الأخ أحمد عبد الرحمن حتى توقف صدورها عام 1994، إثر توقيع اتفاقية أوسلو، والعودة إلى أرض الوطن.

لم يقتصر نضال الأخ أحمد عبد الرحمن وينحصر في إدارة فلسطين الثورة والإعلام الموحد، فقد كان قريباً جدا من صناعة القرار الفلسطيني، وملازماً للرئيس الراحل أبو عمار، حتى تاريخ استشهاده، حاضراً في كل المراحل الحاسمة في تاريخ الثورة الفلسطينية وحركة فتح. وكان صاحب رأي وموقف شجاع، يعلنه ويدافع عنه، وفياً لحركة فتح وللثورة الفلسطينية، لم يخضع في يومٍ من الأيام لجغرافية المكان أو ترغيب وترهيب الحكام.

كان قلمه سيفه ودرعه، وفيا لزملائه ورفاق دربه، ووفياً لقائده ياسر عرفات، في حياته وبعد استشهاده. أنصف أبو عمار في كتابين خطهما بقلمه، سيظلان للأجيال كاشفاً لشخصية قائد الشعب الفلسطيني وزمنه.

وداعاً أحمد يا رفيق الدرب، يا من بشرت بعودتنا إلى الوطن قبل نصف قرن، ودافعت عنه على صفحات فلسطين الثورة، من خلال برنامج النقاط العشر الذي أقرته منظمة التحرير الفلسطينية. وداعاً أبا يزن، أيها المناضل الوطني الكبير، الحاضرُ المؤثر في كل موقعٍ كنته، رئيساً لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، عضوا في المجلس الثوري لحركة فتح، والمجلس الاستشاري للحركة، وعضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس المركزي، ومستشاراً للرئيس أبو عمار، وأمينا عاماً لمجلس الوزراء، ومستشاراً للرئيس أبو مازن.

وداعاً أبا يزن، الخالد في ذاكرة شعبك، وأحبائك، وإخوتك، ورفاق دربك. والعزاء لرفيقة دربك في النضال الأخت فريال عبد الرحمن "أم يزن" ، يزن ،عمر، رامي ، فراس ، وابنته ريما ، وآل عبد الرحمن الكرام.