لا تزال قضية «اللجوء» تحوز اهتمامات الرأي العام العالمي، وبعدما كان الاهتمام مركزاً على أحداثها، وبعد أن تم احتواء بعض منها، أخذ الاهتمام يتركز على تداعياتها وربما أسبابها، غير أن هذه المسألة، مسألة اللجوء، رغم ما أحدثته من تأثيرات ومتغيرات في المواقف والمزاج العام، ربما تجاهلت أشكالاً عديدة من «الهجرات» التي لم ينتبه إليها الرأي العام، او على الأقل لم تأخذ هذا الحيز من تفكيره واهتمامه، ولذلك ما يبرره، إذ إن تلك «الهجرات» كانت اكثر هدوءاً وربما تأثيراً مباشراً على الأداء والجماعات بالزخم الذي يؤدي الى الاهتمام والتركيز.
فمع أوائل القرن التاسع عشر، كانت هناك هجرات فردية وجماعية الى القارة السوداء من القارة العجوز، تمثلت في ثوب ديني من خلال البعثات التبشيرية لنشر الدين المسيحي، وفي الجوار، كانت هناك بعثات تجار الرقيق، كل ذلك أدى الى مرحلة الاستعمار، كان موسماً للهجرة الى الجنوب من الشمال، كان هناك غزو لأفريقيا، بدأ عملياً مع حالة الهجرات التي مهدت لتلك الفترة السوداء من تاريخ الاستعمار للقارة السوداء.
وربما يظن البعض ان هجرة العرب عموماً، من سورية وفلسطين تحديداً الى مهاجر الشمال، هي الهجرة الوحيدة باتجاه أوروبا من قبل شعوب المنطقة، غير أن العديد من الفترات شهدت هجرات واسعة، خاصة من لبنان وسورية وفلسطين الى دولة أميركا اللاتينية تحديداً، وأميركا الشمالية، ولعل نخبة من الأدباء العرب خاصة في مجال الشعر، ترعرعوا أدبياً في بلاد المهجر، وشكلت هذه الهجرات الوجه المضيء في تاريخ الهجرات العربية الحديثة.
غير أن هناك وجها آخر لهجرات عربية الى الشمال، لم تكن كذلك للأسف، فهناك غزو عربي للعواصم الأوروبية كل صيف، عندما يهاجر أثرياء وأنصاف الأثرياء من الخليج العربي الى تلك العواصم في فترة إجازة تطول ام تقصر، غير أنها تجد اهتماما من قبل الرأي العام الأوروبي، حيث الأخبار المشوقة عن مستوى الترف والثراء والفضائح، ويشكل فصل الصيف، فرصة ذهبية لوسائل الإعلام الأوروبية، لنشر أخبار العرب ومجون بعضهم وبحثهم عن الرذائل، ويقدم هذا الإعلام صورة بائسة عن العرب، حيث يجري تعميم هذه الظاهرة، لدى الذهنية الأوروبية، التي باتت تلخص العربي على شكل ماجن كل همه البحث عن اللذة!!
ولكن وما تقتضيه الأمانة، فإن بعضاً من هؤلاء اللاجئين، وربما لضيق ذات اليد، يهاجرون الى عواصم عربية، كبيروت ودمشق وتونس، وغيرها ولكن للهدف ذاته، وتظل الهجرات من الجنوب الى الشمال، مع متغيرات أساسية، فقد ظل هذا البعض يشد الرحال صيفاً الى عواصم أوروبا، بالتوازي مع بعض آخر، يشد الرحال الى الشمال العربي، لكن على هيئة إرهابيين، فمن "القاعدة"، حتى "داعش" مروراً بـ "النصرة" وأشقائها وشقيقاتها، نجد العدد الكبير من مواطني الجزيرة العربية، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك بالضبط، فإن «هجرة الأموال» التي تدعم هذه الفصائل الإرهابية، تأتي من تلك الجزيرة العربية!!
دون أن ننسى وان نتناسى، ان الدول العربية التي اضطرت الى استضافة اللاجئين السوريين وبعض الفلسطينيين من سورية، هي دول فقيرة بالأصل، كالأردن ولبنان ورغم كل ما يقال عن سلبيات في ذلك، الا ان هذا يجب الا يمنعنا من تحية لبنان والأردن، بالمقارنة مع الوضع العربي العام.
وبالعودة الى «الهجرات الحالية» فقد لاحظت أن المهاجرين الهاربين من الموت قتلاً او جوعاً، على يد الإرهاب، والذين كانوا يهدفون الى الوصول الى أول محطة يشعرون بها بالأمان، قد تجاوزوا هذا الهدف أحياناً، فمن المعروف ان اول محطة رحبت بهم على الصعيدين الرسمي والشعبي، كانت في النمسا، قادة البلاد وأحزابها ومجتمعها المدني كل هؤلاء كانوا بانتظار الترحيب بموجات اللاجئين المتتالية، وأعلنت النمسا انها على استعداد وفوراً لاستضافة آلاف اللاجئين، وفتحت باب التسجيل، إلا ان عدداً بالعشرات فقط سجل طلباً للجوء الى النمسا، باقي الموجات المتتالية فضلت مواصلة الرحلة، التي باتت اقل عذاباً بما لا يقاس، الى ألمانيا (!) على أن هذه الدولة لديها سجل حافل بما قامت به القوى العنصرية والنازية الجديدة، ضد كل ما هو غريب، بما في ذلك العمال اللاجئون من أوروبا الشرقية، غير ان هذه القوى مارست نازيتها ضد العرب بشكل مكثف ومركز، ومن الغريب ان يختار «اللاجئ الهارب من القتل» ألمانيا تحديداً، إلا اذا كان الهدف قد تغير، وهنا نتحدث عن الهدف الاقتصادي، وهنا أنا أحاول التفسير ولست بصدد اتخاذ موقف، اذ من حق هؤلاء بعدما شعروا بالأمان ان يشعروا بأمانهم الاقتصادي ومستقبل عائلاتهم!!
تركي آل الشيخ يعلن عن مسلسل "فنان العرب" حمد عبده
10 أكتوبر 2024