عـن فـلـسـطـيـن الـكـنـعـانـيـة

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

عاطف أبو سيف

يرتبط اسم فلسطين بأرض كنعان بشكل وثيق وربما لا يمكن توصيف البلاد بأقل من أنها الأرض الحقيقية التي عاش عليها الكنعانيون الأوائل، وأن تزامن ظهور الحضارة فيها تجلى بشكل كبير مع وجود المدن الكنعانية وما تركته من أثر على شكل البلاد ومستقبلها بعد ذلك. كما أن الوطنية الفلسطينية ارتكزت في خطابها في مواجهة المشروع الاستعماري على التأكيد على هذا الجذر الكنعاني العريق بما يشكله من امتداد وصلابة واستعادة حضور. ويمكن متابعة تكوينات خطاب الوطنية الفلسطينية ببعده الكنعاني في كتابات آباء الحركة الوطنية وتصريحاتهم، أو في البلاغات الحزبية المختلفة التي جعلت من كنعانية فلسطين جزءاً من استرداد النقاش حول وجود فلسطين.
ومع هذا فإن الكتابات عن الواقع الكنعاني في فلسطين تبدو ضئيلة. أسس كثيرة وراء ذلك منها أن الاحتلالات المتعاقبة على فلسطين إما لم تهتم وإما سرقت الموجودات الكنعانية، حتى لا يتم ربط الشعب الذي يراد نفيُه وطمسه عن الخارطة بتاريخ عريق يسبق الوجود الاستعماري وحكايات العابرين الذين ارتكزت مطامعهم على تـأليف وجوده وتأثيثه ببعض القصص عن لُقى أثرية ليست موجودة أصلاً. ففي الوقت الذي كان الباحثون والمنقبون الغربيون يكتشفون البابلية والفرعونية وبعض الآثار الكنعانية والفينيقية في سورية ولبنان، كانت هناك عملية مضادة لإخفاء أي معلم قد يتم اكتشافه حول الوجود الكنعاني في فلسطين. وحتى حين يتم اكتشاف شيء لا يمكن إخفاؤه كان يتم سرقته من أجل تزييفه. كانت الاكتشافات تتوالي في صعيد مصر وصحرائها وحوض نيلها، وكانت المعابد والمقتنيات تجد طريقها من دفات النسيان إلى العلن، وفيما كانت الآثار البابلية تلقى ترحاباً ويتم قراءة النصوص القديمة باحتفال كبير، كل ذلك في حقب تكوين الاستعمار الممتدة من القرن الثامن عشر، خلال كل ذلك كان يصار إلى طمس أي معلم كنعاني قد يتم العثور عليه في فلسطين. لم يكن هناك إلا هدف واحد يتمثل في تجسيد مقولة الغزاة الجدد بأن الأرض لم تكن مأهولة، وأن الوجود الوحيد الذي يمكن أن يستدل عليه فيها هو وجودهم العابر. كان الأمر أشبه بمسرحية يجب أن يتم إخراجها بشكل جيد.
كان الهم الأساس للمستشرقين يتمثل في تأكيد المقولات التي وضعها الاستعمار. وهذه مقولة عامة أجاد إدوارد سعيد تحليلها في الاستشراق، حين سحبها على واقع استلاب فلسطين تتضح بصورة أكبر. ويمكن بمراجعات خفيفة وسريعة للطريقة التي تم تصوير فلسطين فيها في صورة ورسومات أوائل الهواة الأوربيين الذي جاؤوا مع فرق الاستشراق أن يستدل على ذلك. وفي مقالة سابقة على هذه الصفحة أشرت بتفصيل لذلك. خلاصة هذه النقطة أن فلسطين كان يجب أن يتم تقديمها كأرض تنتظر الفاتحين الجدد، ويجب على ما يتم انتاجه من نصوص ورسومات وأعمال فنية أن يتوافق مع ذلك. ولكي تكتمل الصورة يجب أن تغيب الصورة الحقيقية: صورة فلسطين الكنعانية. وللمفارقة، فيما تطلق التوراة على فلسطين أرض كنعان فإن التوصيفات التاريخية سعت إلى نزع هذه الصفة عنها. وحتى تم تجسيد الواقع الكنعاني بوصفه ضرورة توراتية، ضرورة حتى تجري أحداث التوراة وحتى يتم استعادة تشكيل المشهد التاريخي وفق ما روته التوراة لا وفق ما جرى فعلياً. والمفارقة الأكبر أن أحداً لا يملك رواية مضادة لما جرى في البلاد، لأن هذه الرواية تم تغييبها. وحتى إن وجدت بعض اللقى وفي النصوص الكنعانية التي لم يكن أهلُ البلاد القائمين على اكتشافها، بل المستشرقون، فقد تم تغييب هذه الروايات حتى تسود الرواية غير الحقيقية عما جرى.
وبالنظر إلى معالجة التاريخ الكنعاني في الأكاديميا الوطنية يمكن أن نصاب بالقلق بأن هذا التاريخ الذي هو أصل تاريخنا والدليل الأكبر على وجودنا واستمرارنا في هذه البلاد، لا يلقى الكثير من الاهتمام من قبل الجامعات ومعاهد البحث العلمي كما في الكتابات المحلية. صحيح ان هناك اعتداداً كبيراً بهذا التاريخ، وكما أسلفت فقد ارتكز الخطاب الوطني الفلسطيني على الكثير من مكوناته، ولكن عند الفحص العملي نجد غياباً واضحاً مثلاً لـ "الكنعانيات" في مساقات التاريخ، ناهيك عن وجود أو عدم وجود تخصصات محددة لهذا التاريخ. وهذا يعكس الكثير حول الطريقة التي يتم فيها النظر إلى بعض القضايا الكبرى التي تمس جوهر وجودنا.
هذا يتطلب تدخلاً ضرورياً من أجل زيادة البحث في التاريخ الكنعاني والموجودات الكنعانية في فلسطين وتأصيل هذا البحث، حتى يكون دورياً وجزءاً أساسياً في الجامعات الفلسطينية، بما قد يلازم ذلك من اجراء تغييرات على منهاج التاريخ في تلك الجامعات. المؤكد أن الصراع على هذه الأرض هو صراع رواية وحكاية حول الوجود. والمحتل لا يريد الأرض فقط، بل يريد أن يحتكر ما روي عن هذه الأرض بشكل تعسفي. ودون تطوير استراتيجيات وطنية لمجابهة ذلك فإننا، دون أن ندري، نفقد هذه الحرب على الرواية. وفي اللحظة التي نخسر تلك الحرب نخسر كل شيء، لأن حكاية الأرض هي أساس استمرارنا عليها.
إذا لم يرتبط شيء بتاريخنا القديم ارتباط الوجود الكنعاني بجذوره العربية فإننا بحاجة للكثير من أجل أن نحافظ على هذا التاريخ ونحميه من الضياع، خاصةً أن هناك قوى مضادة تتمثل في الاحتلال وأدواته تحاول طمس كل هذا التاريخ وفي حالات كثيرة تجييره من أجل خدمة روايتهم التي لا تنتمي للمكان. وعليه فنحن مطالبون بالكثير من العمل من أجل صون هذا التاريخ ومن أجل التأكيد على هوية فلسطين وجذرها الكنعاني ارتباطاً بالحق التاريخي للشعب الفلسطيني في بلاده دون منازع. وهو عمل شاق ويجب أن تتداخل فيه مهام المؤسسة الحكومية مع الجامعات ومراكز الأبحاث كما مع المجتمع الأهلي، حتى تظل فلسطين كنعانية عربية.