جولة مع محاولات التغيير بالثورة... من الجزائر إلى العراق مع محطة لبنانية..

حجم الخط

بقلم : طلال سلمان

 

يعيش الشعب العربي في مختلف اقطاره، مشرقاً ومغرباً، حراكاً غير مسبوق طلباً لحكم ديموقراطي يحقق العدالة الاجتماعية ويقضي على الفساد في الإدارة كما في المجتمع ويحفظ للشعب كرامته وحقوقه في وطنه.

انتهت المرحلة التي كان الجيش الوطني هو المرجع الأخير المؤهل للتدخل واسقاط الحكم الفاسد ومباشرة رحلة التقدم نحو حكم العدالة والكفاية في ظل الكرامة.

وكأنما بسحر ساحر، نزلت الشعوب إلى الميادين في عواصم عربية عدة..

كانت الجزائر في الطليعة وهي التي تمترس شعبها سبعة شهور بطولها طلباً لانتخابات ديمقراطية تستولد عهدا جديداً ينقذ البلاد والعباد من حكم العسكر المتلطي خلف الرئيس العاجز عن الوقوف والنطق السليم عبد العزيز بوتفليقة.. حتى أمكن اخيراً "انتخاب" رئيس جديد، وبإشراف الجيش دائماً، هو عبد الجميد تبون.. لكن الجماهير التي لم يتعبها البقاء في الشارع تعترض على الرئيس الجديد وتعتبر أن الجيش قد فرضه فرضاً، وان بوسائل "ديمقراطية".

وفي حين نجح شعب تونس في استئناف مسيرته نحو الديمقراطية بعد خلع الدكتاتور بن علي الذي هرب مع زوجته عارضة الازياء وجواهرها إلى السعودية حيث مات هناك..

فها هي تونس تنتخب رئيسها الجديد قيس سعيد، في جو مميز بديمقراطيته التي تجلت في الانتخابات النيابية ثم في المنافسة النظيفة بين اربعة مرشحين، بينهم حزبيون ومرشح مستقل وذو تاريخ نظيف في التشريع والعمل القانوني في جامعة الدول العربية.

***

اما لبنان فكان اشقاؤه العرب يحسدونه على جمال طبيعته ونظامه الاقتصادي الحر ويقصدون بلداته الجبلية للاصطياف ومدنه الساحلية للاستمتاع بممارسة رياضة التزلج على الثلج نهاراً، والسهر ليلاً في مقاهيه وملاهيه ومطاعمه التي ترضي كل الاذواق..

على أن نظام الاقتصاد الحر، على قاعدة "دعه يعمل، دعه يمر" قد خلق تمازياً حاداً بين ابناء المجتمع الواحد.. ثم أن الدول العربية ذات الثروات الخرافية (النفط والغاز) تنبهوا متأخرين إلى وجود "حزب الله" الذي يحظى بشعبية واسعة لدوره في تحرير جنوب لبنان من احتلال العدو الاسرائيلي.

هكذا أخذت تتوالى العقوبات الاميركية على الوطن الصغير.. ثم امتدت المقاطعة إلى دول الجزيرة والخليج العربي فامتنع اهلها عن القدوم إلى المصايف اللبنانية والاستثمار فيه، متجهين إلى بعض اوروبا (بريطانيا وفرنسا وسويسرا خاصة..) وهكذا شحت الاستثمارات، وهربت الرساميل.

بالمقابل ادى التردي الفاضح للطبقة السياسية إلى اثارة غضب الجماهير التي نزلت إلى الشارع في تظاهرات واعتصامات مستمرة منذ حوالي الشهرين .. واستقال رئيس الحكومة سعد الحريري، وما زال موقعه شاغراً بعد فشل او إسقاط بضعة مرشحين جرى تداول اسمائهم قبل أن يعتذروا عن تشكيل الحكومة الجديدة، بعد رفض الشارع..

والازمة مفتوحة بعد، والازمة الاقتصادية تثقل بوطأتها على اللبنانيين، في حين تدير الدول العربية الغنية وجهها إلى الجهة الاخرى، وتشدد الولايات المتحدة ضغوطها بذريعة "حزب الله" كتتمة لعقوباتها المفروضة على جمهورية إيران الاسلامية.

ومفهوم أن الانقلاب العسكري غير وارد في لبنان، لأسباب تتعلق بالتوازنات الطائفية التي تجعل كلاً من الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة من طائفة غير طائفة الآخرين (موارنة، شيعة، سنة) وكذلك يتم تقاسم الوزارات والادارات العامة .. حتى الحجاب)!

لقد كان أول انقلاب بالثورة المدنية وقد أطاح برئيس الجمهورية في العام 1952 الشيخ بشارة الخوري بسبب تسلط أخيه الشيخ سليم (أو السلطان، كما كان يلقب)، وقد تولى قائد الجيش آنذاك اللواء فؤاد شهاب رئاسة السلطة الانتقالية حتى انتخاب "الفتى الأغر" كميل شمعون رئيساً للجمهورية.. وبعد انتهاء ولايته ومحاولة تجديدها انتفض اللبنانيون، وقامت الثورة في العراق فخلعت الملك الفتى فيصل الثاني "وسحلته" ومعه خاله الوصي عليه الأمير عبد الاله والطاقم السياسي الذي كان يساعده بقيادة نوري السعيد، وتولى السلطة الزعيم عبد الكريم قاسم بشراكة محدودة مع عبد السلام عارف وسط بركة من دماء قيادات النظام الملكي الذين سحلوا في الشوارع!..

***

وأما ليبيا التي كانت مملكة من ولايات ثلاث: بنغازي في الشرق، وطرابلس في الغرب، وسبها في الجنوب، فقد قام الملازم الذي رفع نفسه إلى رتبة عقيد بانقلاب سماه "ثورة الفاتح" – في الأول من أيلول 1969، وتحت راية الولاء لجمال عبد الناصر في مصر، ثم تبدل الحال مع وفاة الرئيس القائد عبد الناصر في28 أيلول سبتمبر1970، في حين استمر القذافي حاكماً حتى 2010 حين قتله المتظاهرون الغاضبون بطريقة وحشية. ولقد سقطت جماهيرية القذافي بسقوطه.. وما تزال ليبيا غارقة في دمائها، برغم تدخل الأمم المتحدة، والصراع مفتوح بين بقايا الجيش بقيادة خليفة حفتر في بنغازي، وسلطة مدنية ترعاها الأمم المتحدة في طرابلس، والدماء تغطي – مع النفط – رمال هذه المملكة التي صارت "جماهيرية" وها هي تكاد تزول عن الخريطة.. ودائماً تحت الرعاية الدولية، بعدما أفقرت جماهيرها وهي تعيش أيامها الآن في ظل الفوضى والدماء وخراب البلاد.

***

سوريا غارقة في دمها الآن، والحرب فيها وعليها مفتوحة منذ تسع سنوات طويلة.

والعراق تحكمه الفوضى وترسبات الاحتلال الأميركي وذكريات عصر الطغيان في ظل صدام حسين، المغامر المجنون الذي غزا إيران وقاتلها سبع سنوات، ثم غزا الكويت لينتهي على حبل مشنقة اميركية تم تسليمها إلى شيعة العراق، لتعميق الفتنة وإدامتها.

والحكم في ارض هارون الرشيد متروك للمقادير، والدم يسيل في شوارع المدن، لا سيما في الجنوب..

ولقد فاقم في خطورة الاوضاع في العراق الصراع العلني الدائر على النفوذ بين ا يران والولايات المتحدة الاميركية، في حين أن شعبه في الشارع منذ شهرين في طلب نظام ديمقراطي وغير طائفي ومتحرر من النفوذ الاجنبي، يلتفت إلى مطالب الشعب الجائع في احد أغنى بلدان العالم ( نهران بدل النهر، دجلة والفرات، إلى جانب نهر ثالث من الذهب الاسود- النفط).

تخرج التظاهرات يومياً في بغداد والبصرة وكربلاء والنجف، وتصدر المرجعية الشعبية في النجف "النصائح" بضرورة حسم الاوضاع والاتفاق على حكومة جديدة تكون قادرة ومؤهلة على مواجهة الازمة بتداعياتها الاقتصادية على حياة الناس الذين يعانون من الجوع في واحد من اغنى بلاد الله في الثروات الطبيعية ( المياه.. والنفط).

والوضع مفتوح على مخاطر صراع الخارج، قريبه والبعيد، في انتظار أن ينتصر شعب العراق لوحدته الوطنية وينشئ الحكم القادر والصالح لإعادة ارض الرافدين إلى شعبها ويدفع بها إلى مستقبلها الافضل.

العسكريتاريا معادية للديمقراطية بالتكوين: انها تقوم على حق الإمرة والانضباط وتنفيذ الأوامر بلا نقاش،

أما الديمقراطية فعمادها الرأي والرأي الآخر، والنقاش المفتوح، واحترام الأقلية رأي الأكثرية.

مفهوم أن العرب، وبرغم كل ما جاءت به الكتب السماوية، والقرآن الكريم على وجه الخصوص، لم يقدر لهم أن يعرفوا فيعيشوا الديمقراطية، سياسة وسلوكاً، بل كان حق الإمرة محصوراً بصاحب الأمر، خليفة كان أم ملكاً، أم أميراً أم ضابطاً أم مأمور أحراش.

***

وحين بدأ تهاوي الأنظمة الملكية، بدءاً بمصر والملك فاروق، جاءت الأنظمة العسكرية كبديل مقبول في ظل الرغبة بالخلاص من الأسوأ، وتقبل العسكر في السلطة لعلهم يستعيدون شرف الأمة المهدور في فلسطين على أيدي "العصابات الصهيونية" التي تمكنت من إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية جميعاً، في هزيمة حرب 1948 والتي كانت السبب المباشر في توالي الانقلابات العسكرية بدءاً بسوريا وحسني الزعيم الذي رقى نفسه إلى رتبة الماريشال.

لكن الدنيا غير الدنيا بالأمس.. فالشعوب تعي الآن حقوقها في بلادها، وترفض أي حكم دكتاتوري سواء رفع الشعار الديني او موه نفسه بشعارات الديمقراطية.

الشعب هو السيد.. اليوم وغداً، ولسوف يحمي حقه في المستقبل الافضل.

*رئيس تحرير "السفير " اللبنانية

ينشر بالتزامن مع جريدة "الشروق" المصرية