الصهيونية... تاريخ طويل من التقارب مع اللاسامية!

حجم الخط

بقلم: هداس ثيير*

 

الصهيونية لم تكن سوى رد فعل صغير نسبيًا، على اللاسامية، من بين ردود أفعال أخرى، فقد توافد الكثير من اليهود على الحركات الاشتراكية والشيوعية، والتي لعبت دورًا في غاية الأهمية في الحرب ضد الفاشية، وفي المقابل، كانت الصهيونية عبارة عن استسلام لمعاداة السامية، بل وتواطأت معها في بعض الأحيان.

لقد تلخصت الفكرة الأيديولوجية الأساسية في تأسيس الصهيونية، بأنه لا يمكن الانتصار على اللاسامية أبدًا، وقد وصل الأمر بالصهاينة إلى إيجاد طرح "علميّ" للفكرة القائلة بأنه لا يمكن لليهود وغير اليهود العيش سويًا، فقد زعم إحدى قادة الصهيونية، ليون بنسكر، أن معاداة السامية كانت بمثابة "كارثة نفسية، وأنها وراثية، وأنها مرض غير قابل للعلاج ممتد منذ ألفي عام".

وكتب ثيودور هرتسل، الذي يشار إليه عمومًا على أنه "والد الصهيونيّة"، عن تجربته مع معادة السامية، خلال قضية دريفوس سيئة السمعة في فرنسا، وكيف مكنته من تحقيق "موقف أكثر انعتاقا من معاداة السامية، الذي بدأت أفهمها الآن تاريخيًا، وأن أسامحها، فقبل كل شيء، أدركت الفراغ والعقم في محاولة مكافحة معاداة السامية".

وكما يصفها عضو في المنظمة الاشتراكية الإسرائيلية (المنتهية صلاحيتها اليوم)، فإن الصهيونية "تقبل على الأقل ضمنيًا الافتراضات الأساسية للعنصرية"، أيّ أنّ هناك شيئًا متأصلًا في اليهود أو غير اليهود يستدعي بالضرورة انفصال المجموعتين عن بعضهما البعض.

والتقت أفكار عدد من الصهاينة البارزين من نظيرتها العنصرية الشعبية التي تستهدف اليهود أنفسهم، فقد وافق هرتسل مثلا، على أن اليهود شكلوا عبئًا اقتصاديًا على غير اليهود، ما أدى إلى استدعائهم معاداة السامية بأنفسهم أينما ذهبوا، وهكذا، كان هناك دائمًا اتساق مقلق بين الصهيونية ومعاداة السامية.

ويمكن القول إنه حتى لو لم تتفق الصهيونية مع اللاسامية، فإنها استسلمت لها على أقل تقدير، فقد عبرت بعض المسارات الرئيسية داخل الحركة، عن اهتمام مشترك بين الصهيونية، من جهة، ومعاداة السامية، والفاشية من جهة أخرى، وتتمثل إحدى الأمثلة المروعة بشكل خاص، على هذا النهج، بما عبّر عنه إحدى قادة الصهيونية في ألمانيا في الثلاثينيات، يواكيم برينز، فقد كتب تعليقًا على هتلر، الذي دفع حينها إلى إقامة فصل تام بين اليهود وغير اليهود، ولا سيما حظر التزاوج:"لقد انهارت نظرية الاستيعاب، لم يعد لدينا أي ملجأ، نريد استبدال الاستيعاب، بالاعتراف الواعي بالأمة اليهودية والجنس اليهودي، هؤلاء اليهود الذين يعترفون بخصوصياتهم هم وحدهم القادرون على احترام دولة قائمة على مبدأ نقاء الأمة والعرق... ويُسحب اليهود من كل مخبئ للعماد والزواج المختلط، هذا لا يجعلنا غير راضين، فبهذا الإكراه للاعتراف بمجتمع خاص والوقوف إلى جانبه بوضوح، نرى في نفس الوقت تحقيق أحلامنا".

ومن الناحية العملية، فإن الدافع الأكثر شموليّة، الذي مكّن الكثير من الصهاينة من رؤية الأنظمة المعادية للسامية، بطريقة إيجابية إلى حدٍ ما، لا يكمن بالضرورة، بكونهم اتفقوا مع معاداة السامية (رغم أنّهم فعلوا ذلك في بعض الأحيان)، بل بأن المشروع الصهيوني كان، وما زال، يعتمد على دعم القوى الإمبريالية، بدءًا بالإمبراطورية العثمانية، ومن ثم بريطانيا، والولايات المتحدة اليوم.

الصهاينة وفلسطين

فلم تكن الأقلية المتمثلة بمجتمع استيطاني في فلسطين، قادرة على استعمار السكان الأصلانيين الذين يشكلون أغلبية، دون الدعم العسكري من القوى الكبرى، لم يكن الصهاينة، بمن فيهم أولئك الموجودون في معسكر "العمل" التقليدي، يميزون من أين جاء هذا الدعم، حتى عندما كان الدافع من وراءه هو ازدراء اليهود.

وعلى سبيل المثال، اتفقت النخبة البريطانية الحاكمة مع الصهاينة، على أن دعم إنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين، سيعود بنتائج مثمرة على الطرفين، لأن الدولة الصهيونية باستطاعتها أن تعمل كثقل مضاد للقومية العربية المتصاعدة في المنطقة، وكمعيق لميل العديد من اليهود في بريطانيا للانضمام إلى الحركات الراديكالية والثورية.

وقدم ونستون تشرشل، هذه الحجة في مقال بعنوان "الصهيونية مقابل البلشفية"، زاعما أنه من المهم "تطوير وتعزيز أي حركة يهودية ذات بروز قوي" مثل الصهيونية التي "يمكن أن تقود مباشرة" باتجاه معاكس لـ"المؤامرة العالمية" التي يقودها "اليهود الدوليون" (وهنا يذكر كارل ماركس وليون تروتسكي، وإيما جولدمان، وروزا لوكسمبورغ)، بهدفة "الإطاحة بالحضارة".

وفي عام 1917، أصدرت بريطانيا وعد بلفور، معلنة رسميًا دعمها لإنشاء وطن لليهود في فلسطين، واشتهر اللورد بلفور، الذي كتب الإعلان، بمعادة السامية، ورعى تشريعًا ضد الهجرة اليهودية إلى بريطانيا.

وبدأ المسؤولون البريطانيون في تقديم الدعم الاقتصادي والسياسي للدولة الصهيونية الناشئة في فلسطين، على سبيل المثال، مُنحت 90 في المئة من التنازلات الاقتصادية، لليهود على الرغم من أنهم يشكلون نسبة ضئيلة من السكان، وبينما طرد المستوطنون الفلسطينيين من أراضيهم وأماكن عملهم، نمت القومية العربية ردا على ما كان كارثة مرتقبة واضحة.

ومع صعود الفاشية في أوروبا، شهد تعداد السكان اليهود في فلسطين أكبر نمو، ولكن في هذه الفترة أيضًا، أظهرت الصهيونية وجهها الأقبح فيما يتعلق بيهود أوروبا، ففي غضون أشهر من وصول هتلر إلى السلطة، أرسلت إليه المنظمة الصهيونية الألمانية الرائدة مذكرة لتقديم التعاون، وبينما كان النازيون يحطمون منظمات المقاومة الاشتراكية واليهودية، فقد سمحوا للصهاينة بمواصلة العمل، وفي المقابل، عملت المنظمات الصهيونية الرائدة، على تقويض المقاطعة العالمية المناهضة لألمانيا النازية.

وآمن قادة الصهيونية بأن محاربة معاداة السامية في أوروبا، كانت محض إلهاء عن الفوز بدولة لليهود في فلسطين. ومرة تلو الأخرى، اختاروا التفاوض مع الأنظمة المعادية للسامية، على زيادة هجرة اليهود لفلسطين، بدل مجابهتها. وحددوا في هذه العملية، نوع المهاجرين المرغوب بهم. فقد أعلن حايم وايزمان، على سبيل المثال:

"أريد أن أنقذ اليافعين من أعماق هذه المأساة، الكبار سيموتون، إما يتحملون مصيرهم أو لا يتحملوه، إنهم غبار اقتصادي وأخلاقي في عالم قاسي... فقط فرع من الشباب سوف يبقون على قيد الحياة".

وبالمثل، رفضت "الوكالة اليهودية"، وهي المنظمة الصهيونية المركزية في فلسطين، تخصيص أموال لإنقاذ اليهود الأوروبيين، وقررت إنفاق الأموال على شراء الأراضي في فلسطين.

وعارض ديفيد بن غوريون، الذي أصبح لاحقًا أول رئيس للحكومة الإسرائيلية، مخططًا يسمح لأطفال اليهود الألمان الهجرة لبريطانيا، وهذا كان تبريره لذلك:"لو علمت أنه سيكون من الممكن إنقاذ جميع الأطفال في ألمانيا عن طريق إحضارهم إلى بريطانيا، أو جلب نصفهم فقط إلى إسرائيل، فسأختار البديل الثاني، لأننا يجب ألا نزن حياة هؤلاء الأطفال فحسب، بل يجب أن نزن أيضًا تاريخ شعب إسرائيل".

تطهير عرقي

وبحلول عام 1947، أي عشية تأسيس إسرائيل (النكبة)، شكل اليهود ثلث تعداد السكان في فلسطين. ولم تكن المستوطنات وحدها قادرة على خلق دولة يهودية، لذا يجب أن يكون الذراع الآخر للاستراتيجية هو "نقل" السكان العرب (تعبير ملطف مطهر عن التطهير العرقي).

وتبنت غالبية قيادة الصهيونية هذه الفكرة، من هرتسل إلى بن غوريون، وكما قال يوسف فايتز، رئيس قسم الاستعمار في الوكالة اليهودية:

"يجب أن يكون واضحًا بيننا، أنه لا يوجد مجال لكلا الشعبين معًا في هذا البلد، لن نحقق هدفنا إذا كان عربًا في هذا البلد الصغير، لا توجد وسيلة أخرى سوى نقل العرب من هنا إلى الدول المجاورة، جميعهم ولا يجب الإبقاء على قرية واحدة، ولا أي قبيلة".

وقسمت الأمم المتحدة فلسطين عام 1947، مانحة 55 في المئة من الأراضي لدولة يهودية، تاركة الأغلبية العربية مع 45 في المئة فقط من بلدهم، وقبلت القيادة الصهيونية علنًا التقسيم، لكنها وضعت سرًا خططًا لاحتلال بقية البلاد وطرد السكان العرب، وفي الأشهر بين قرار التقسيم وانسحاب الجيش البريطاني، انتهزت المليشيات الصهيونية الفرصة لترويع السكان العرب، في هذا الوقت، ارتكبت فظائع مثل مجزرة دير ياسين سيئة السمعة، التي قتل فيها كل رجل وامرأة وطفل في القرية، بعدد إجمالي بلغ 254 شخصًا.

والمفارقة الأخيرة في الصهيونية هي أنها حولت الأقلية اليهودية المضطهدة في أوروبا إلى أغلبية قمعية في فلسطين، وبدلاً من تحدي الهيمنة، قبل الصهاينة التمييز والفصل العنصري كمبادئ طبيعية للإنسانية، لم يخلص صعود الفاشية الأوروبية قوة دفع هائلة للهجرة إلى فلسطين فقط، بل أيضًا، في نظر العديد من الصهاينة، شرّع التطهير العرقي للعرب، وتبنت معظم فروع الصهيونية اليمينية أفكار الطهارة العرقية كأفكارها الخاصة، وفي نهاية المطاف، يجب أن ترتبط مكافحة معاداة السامية بالنضال الأوسع ضد القمع، لهذا السبب، فإن القتال ضد قمع الفلسطينيين له قواسم مشتركة مع النضال ضد السامية أكثر بكثير من الصهيونية، يجب أن يتجنب هذا الصراع المساومة مع الفاعلين ضده، سواء أكانوا من أمثال دونالد ترامب أو من الهسبراه الإسرائيلية.

إن الحركة التي تضم "صوت اليهود من أجل السلام" وبيرني ساندرز، بقدر ما تفعل مع إلهان عمر، وجيرمي كوربن، يمكن أن تقربنا خطوة من عالم حيث يتم نقل وحشية المذابح والمهن إلى مزبلة التاريخ.

*ناشطة واشتراكية تعيش في نيويورك، ومؤلفة كتاب "دليل الشعب للرأسمالية: مقدمة للاقتصاد الماركسي"، في مجلة "جاكوبين" - عن "عرب ٤٨"