محكمة الجنايات الدولية

حجم الخط

بقلم : د. دلال عريقات

 

إعلان المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية -بن سودا- يعني صراحة قبول ولاية المحكمة على الحالة في فلسطين المحتلة ونيتها بفتح تحقيق في كل الأراضي الفلسطينية حول جرائم حرب ارتكبتْ وما زالت تُرتكب على أرض فلسطين، وهنا جاء طلبها من الدائرة التمهيدية في المحكمة للتأكيد على موقف بن سودا بخروج موقف المحكمة بامتلاكها الولاية القانونية على مناطق الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة لفتح التحقيق، يتوقع أن يأتي الرد خلال مدة لا تتجاوز 120 يوماً ثم تُباشر المحكمة بالتحقيق بملفات المجرمين الاسرائيليين.

هذا الإعلان جاء نتيجة تراكم الجهود التي قادتها اللجنة الوطنية العليا لمتابعة المحكمة الجنائية الدولية إضافة للطاقات الجبارة لأفراد وزارة الخارجية وخاصة دائرة المتعدد الذين عملوا على متابعة ملف الانضمام وكيفية الإحالات لمئات الحالات الفردية وغيرها من التفاصيل حتى وصلنا اليوم وبعد ٤ سنوات من العمل الحثيث لتقرير المدعية العامة الدولية واحتمالات فتح تحقيق قضائي مع المسؤليين الاسرائيلين. هذا تقدم مهم للغاية وإنجاز الدبلوماسية الفلسطينية التي عملت بثبات وصبر وفي ظروف معقدة جدا رغم كل محاولات التشكيك والتعقيد والتهديد.

هذا التقدم غاية في الأهمية ليس فقط من جانب الدبلوماسية وكون فلسطين عضواً ولكن المهم والجديد في التطورات الأخيرة هو التطور القانوني الذي تمكنت فلسطين من تحقيقه من خلال المحكمة، هذه أول مرة سيتعرض فيها المسؤولون الاسرائيليون للمساءلة والمحاسبة من قبل جهة دولية تنتمي لميثاقها 122 دولة، سيتم توجيه أوامر إلقاء القبض على المجرمين الإسرائيليين من قبل المحكمة والتي يمكن لها أن توجه أوامر القبض من خلال منظمة الشرطة الجنائية الدولية، الإنتربول. والإنتربول بدوره قد يرسل مذكرات الاعتقال لأجهزة الشرطة في كافة دول العالم، خاصة الدول الأطراف في ميثاق روما من أجل القبض على المتهمين. هذا يعني فعليا أن مجرمي الحرب الإسرائيليين سيكونون ملاحقين ولن يستطيعوا السفر إلى 122 دولة في العالم ليتجنبوا جلبهم إلى المحكمة، بما في ذلك معظم الدول الأوروبية، هذا الأمر يشكل ضغطا سياسيا على إسرائيل مما يدفعها لتجنب ارتكاب المزيد من الجرائم.

يقلل كثيرون من أهمية هذه الخطوات والعمل والوسائل الدبلوماسية والقانونية بشكل عام، حتى أن الكثيرين انتقدوا الانضمام للمحكمة من الأصل. أتفق مع هؤلاء بأن المحكمة لن تُشفي القهر والظلم الذي عانى ويعاني منه الشعب الفلسطيني، إلا أنني اختلف معهم بنظرتهم للوسائل والأدوات الدبلوماسية والقانونية، لا نستطيع أن ننكر حقيقة أننا شعب يعيش تحت وطأة الاحتلال ولا نملك القوة ولا الإرادة لاشعال الحروب، وهنا أرى أن إعلان المُدعية العامّة وإن كان يحتاج لمزيد من الصبر إلا أننا وفي ظل الجرائم التي نشهدها، لا نستطيع أن نتجاهل امتعاض وغضب نتنياهو مـن الإعلان، وردة الفعل الاسرائيلية العميقة والجنونية حيث اعتبره رئيس الوزراء الاسرائيلي يوماً أسوداً! حققنا نجاحاً دبلوماسياً لا بأس به لتوظيف الطريق القانونية التي تحتاج للكثير من العمل والجهد والملفات والمتابعة الجادة.

لقد تم اعتماد النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية في روما 1998 وتأسست المحكمة بعام 2002 بهدف محاسبة أفراد ارتكبوا جرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية. انضمام فلسطين لمحكمة الجنايات الدولية لم يكن أمراً بسيطاً، فهو عبارة عن مسيرة دبلوماسية احتاجت للكثير من الصبر والتروي والعمل الجماعي الاستراتيجي. الانضمام لم يكن أوتوماتيكياً بل بدأ بالتوجه للأمم المتحدة لرفع مكانة فلسطين في العام 2012 الى دولة غير عضو مما سمح لنا الانضمام لمجموعة من الاتفاقيات والمواثيق الدولية وهنا تقدم الطلب الفلسطيني للانضمام لميثاق روما الخاص بالمحكمة. لقد قبلت بن سودا الولاية وتنوي إحالة المجرمين الاسرائيليين تحت بند جرائم حرب وهذا إنجاز تاريخي، إلا أن الفلسطينيين يطمحون ان تنظر المحكمة في الجرائم ضد الإنسانية أيضاً بشكل عام لضمان التحقيق في كافة أشكال الجرائم التي يرتكبها وارتكبها الاحتلال ضدنا.

من الجدير بالذكر أن اللجنة الوطنية العُليا ضمت كل الفصائل الفلسطينية بمختلف اطيافها كما ضمت ممثلي المجتمع المدني من حقوقيين وقانونيين بقيادة منظمة التحرير وعملت وزارة الخارجية بكل ثبات على متابعة هذا الملف بدقة حيث أحالت ملفات جرائم الاستعمار وهذا يشمل ملف الأسرى اضافة لملف الحرب على غزة، هناك المئات من الحالات التي تم تقديمها وما زال الجهد مستمراً لرصد كافة هذه الجرائم. يأتي هذا الإنجاز وفاءً لأرواح الشهداء الأطفال الدُّرة وأبو خضير والدوابشة والآلاف من الشهداء الفلسطينيين الذين قضوا ضحية لجرائم الاحتلال الاسرائيلي، الآلاف من الاسرى والمواطنين العُزل، ولهذا ارتأت القيادة الفلسطينية التوجه لمحكمة الجنايات الدولية حتى يتمكن الفلسطينيون من محاسبة الاسرائيليين على إرهابهم الممنهج ضد شعبنا الأعزل.

رسالتي اليوم، لننظر لمحكمة الجنايات الدولية على أنها أحد أهم الوسائل السلمية والقانونية إلى جانب العديد من الوسائل الأخرى التي يتوجب علينا متابعتها، فهناك أدوات كثيرة يعمل الفلسطينيون من خلالها ويتطلب الوضع الراهن التركيز على أن القرار هو قرار قانوني متعلق بالاحتلال وجرائمه وعلينا التركيز والتروي وتوحيد الرواية والخطاب الإعلامي والقانوني والعمل على تحضير الكوادر والمختصين القانونيين والاستثمار في هذا الملف الهام.

محكمة الجرائم وُجدت لحماية المواطنين الأفراد، وهنا رسالة لأهمية الحقوق والحريات ودعوة للفلسطينيين أن يعملوا داخلياً لحل الانقسام وتفعيل العملية الديمقراطية وإنجاز الانتخابات والتقدم بالحريات حتى نتمكن بالوحدة من تحقيق المزيد من الإنجازات.

التخوف الآن ذو طابع سياسي؛ بمعنى أن السلطة الوطنية الفلسطينية قد تتعرض لردة فعل أمريكية عنيفة لأن الولايات المتحدة معارضة أصلا لوجود المحكمة الجنائية الدولية من حيث المبدأ، وهي معارضة بشكل محدد لانضمام فلسطين للمحكمة، ولكن الفلسطينيين أصلاً يواجهون العديد من الضغوط والتهديدات وقطع المساعدات المالية، وعدم الاعتراف بفلسطين كدولة كاملة العضوية وغيرها. إلا أن ما نخشاه الآن هو ان يقود جنون الادارة الامريكية الحالية للقضاء على المحكمة الجنائية بشكل كلي من خلال نفوذها في مجلس الأمن وباستعمال البند السابع.

- دلال عريقات، أستاذة حل الصراع والتخطيط الاستراتيجي، كلية الدراسات العليا، الجامعة العربية الأمريكية.