بقلم: تل ليف رام
تكون أحيانا جملة قصيرة واحدة بالذات تخفي رسالة اكبر من خطاب كامل. ومثال ذلك ما قاله قائد سلاح الجو، اللواء عميرام نوركين: "هجوم سلاح الجو الأميركي في العراق هو امكانية كامنة لانعطافة". وعمليا تختبئ في الجملة التي اختارها نوركين القصة بكاملها. فلو لم يكن هذا الحلف الاستراتيجي الأهم لدولة إسرائيل، لكان معقولا الافتراض بان نوركين سيضيف بان سلاح الجو الأميركي فعل بالاجمال ما يفترض أن يفعله منذ زمن بدلا من ان يتجاهل الارهاب واستخدام القوة العسكرية في منطقة الخليج.
ترى إسرائيل في سياسة ضبط النفس العسكري للولايات المتحدة تجاه الاعمال الإيرانية – ضرب ناقلات النفط، اسقاط الطائرة المسيرة وضرب آبار النفط في السعودية – مشكلة استراتيجية خطيرة، من شأنها ان تعطي إيران ثقة مبالغاً فيها بالنفس، وتؤدي الى تشديد الاعمال العسكرية ضد إسرائيل.
في إسرائيل، ينظرون بالطبع بالإيجاب إلى العملية الأميركية، فهي بمثابة أنه من الافضل أن يأتي الأمر متأخرا على الا يكون على الاطلاق، ولكن لا يزال هذا لا يعد تغييرا ثابتا في السياسة الأميركية من حيث تثبيت معادلات رد جديدة على العدوان الإيراني في المنطقة، وفي هذه الاثناء يحاولون التركيز على العقوبات الاقتصادية في ظل الامتناع عن استخدام القوة العسكرية في المنطقة.
في القيادة الامنية في إسرائيل يرون في الخطوة الأميركية المتمثلة بالهجوم على قواعد الميليشيات الشيعية المتماثلة مع الحرس الثوري في إيران، عملية موضعية جاءت كرد على اطلاق الصواريخ، الاسبوع الماضي، على قاعدة لقواتها في العراق ادى الى قتل مواطن أميركي. لا يدور الحديث عن اشارة واضحة الى تغيير السياسة، حتى في حالات مستقبلية يكون فيها هدف الهجوم من جانب الميليشيات الشيعية العاملة بتوجيه مباشر من قوة القدس الإيرانية اهدافا أميركية.
يعيش الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في معضلة استراتيجية: فهو من جهة يتطلع الى تقليص التواجد العسكري الأميركي والتدخل في العراق، ومن جهة اخرى لا يمكنه أن يتنكر لحقيقة أن الإيرانيين يواصلون تشديد قبضتهم على الجمهورية الممزقة والمنهكة. والامر الوحيد الذي سيقرر استمرار طريقه هو المصلحة الأميركية، التي لا تتطابق دوما مع مصالح إسرائيل.
يوجد الأميركيون خارج الصورة في كل ما يتعلق بتثبيت التواجد الأميركي في سورية، والسيطرة الروسية ليست موضع شك. هكذا بحيث ان إسرائيل تبقى وحدها في المعركة، المتوقع أن تستمر في العقد الجديد ايضا، وحسب التقديرات الاستخبارية ستتعاظم في السنة القريبة القادمة. صحيح أن الإيرانيين يستثمرون المقدرات في بناء القوة العسكرية للمحور الشيعي في مواجهة إسرائيل في سورية، ولكن من ناحيتهم فإن الساحة المركزية هي العراق، وهم يعملون على تحقيق هيمنة نظام آيات الله على الدولة وبما يتناسب مع ذلك يستثمرون هناك مقدرات اقتصادية وعسكرية.
اذا كان يمكن لنا ان نجد جانبا ايجابيا في هذا الميل، فهو يوجد في الرغبة الإيرانية في الحفاظ على سياسة العمل بمستوى متدنٍ من البروز. فرغم التصريحات الهجومية من جهة إيران، فان النظام يأخذ بالحسبان ثمن المواجهة الجبهوية مع إسرائيل.
لقد ادى العقد الماضي الى انعطافات استراتيجية في المنطقة. فقد بدأ بثورة الربيع العربي، التي غيرت الصورة تماماً، وانتهت بتعزيز المحور الشيعي الإيراني من الخليج وحتى منطقتنا ومع الروس هنا الذين عززوا مكانتهم.
لم تجرّ الهزة في العالم العربي إسرائيل الى حروب كبرى في سورية وفي لبنان. وفي "يهودا" و"السامرة" ايضا بقي التنسيق الأمني، وصمد في اختبارات كبرى، بما فيها الجمود السياسي والعلاقات المتضعضعة بين القدس ورام الله. وتحت ولاية رئيس الاركان السابق، غادي آيزنكوت، والحالي، أفيف كوخافي، وبتعليمات من القيادة السياسية، عملت إسرائيل في خط فاعل تجاه تعاظم القوة الإيرانية في ظل الحرص على عدم الوقوع في مواجهات عسكرية كبرى.
ولم يترك عدم الاستقرار في المنطقة تأثيرا مباشرا على جدول الاعمال في إسرائيل، والتي بخلاف جيرانها واصلت النمو في هذه السنوات من ناحية اقتصادية. فجهاز الامن والقيادة السياسية جديران بالثناء على ادارة سياسة امنية واعية ومسؤولية تميزت بأخذ مخاطرات غير قليلة، وبالسير على الحافة بين حدث أمني موضوعي واشتعال إقليمي. ومع ذلك لا يمكن لنا أن نتجاهل حقيقة أن ميل تثبيت الوجود الإيراني في المنطقة يتواصل و"حزب الله" عظم بشكل واضح قدراته العسكرية.
في جهاز الأمن يقدرون بأنه في مواجهة مستقبلية في الشمال سيكون "حزب الله" قادرا على أن يهدد ايضا اهدافا استراتيجية في الجنوب، بما فيها ميناء اسدود، محطات توليد الطاقة، وقواعد سلاح الجو، واهدافا استراتيجية اخرى. هذا هو السبب الذي يجعل إسرائيل تركز في السنوات الاخيرة، وفي السنة الاخيرة بشكل علني، على محاولة وقف مشروع الصواريخ الدقيقة. وحسب تصريحات محافل الأمن فإنه إذا واصل "حزب الله" العمل على المشروع فان احتمال المواجهة العسكرية معه سيكون أعلى من المواجهة مع إيران.
يثير دخول نفتالي بينيت الى منصب وزير الدفاع بحثا مشوقا في القيادة الامنية في إسرائيل. فعمليات الحرب ما بين الحروب، ولا سيما في سورية وان كانت اوقفت وتيرة التقدم المرغوب فيها من الإيرانيين، ولكنهم معروفون بتصميمهم وثباتهم، ومن غير المتوقع أن يتراجعوا. والسؤال اذا كان نمط العمل الحالي استنفد نفسه يوجد الآن على الطاولة.
في الجيش الإسرائيلي يعتقدون انه الى جانب استمرار الضغط على الإيرانيين يجب العمل ضد الحكم والجيش السوري. فإذا نفذت إيران تهديداتها، وردت من الاراضي السورية ضد اهداف إسرائيلية فينبغي أن يكون الجيش السوري على بؤرة الاستهداف. ولكنهم يحرصون على القول إنه يجب مواصلة العمل بحيث لا تؤدي المواجهة الى التصعيد. اما وزير الدفاع، بالمقابل، فيعرض موقفا مختلفا. على حد قوله ينبغي أن نشدد، منذ الآن، الضغط على الإيرانيين وضرب اهدافهم المباشرة في سورية. وحتى لن أدت الهجمات الى قتلى إيرانيين، وليس فقط بين رجال الميليشيات، الذين لا يأبه بهم أحد. وعلى حد مفهومه فان عملا هجوميا اكثر لن يؤدي بالضرورة الى التصعيد، بسبب الضعف النسبي للإيرانيين في المنطقة.
تجري مداولات معمقة وجدية حول هذا الخلاف الجوهري في طريقة العمل، والتوافق بين وزير الدفاع وقيادة الجيش الإسرائيلي ليس شرطا ضروريا. ففي الجيش يعتقدون بانه في فترة الانتخابات ينبغي اخذ جانب الحذر. أما بينيت فيختلف مع هذا النهج. وقد أعاد تعريف الحرب ما بين الحروب كـ"واقع بين حملات الانتخابات". وعلى حد قوله فان دولة إسرائيل توجد كل الوقت في حملة انتخابات، وتغيير السياسة يجب أن يتم منذ الآن.
وبسبب الآثار المحتملة لمثل هذا الحسم سيكون مطلوبا بحث في "الكابنت"، وسيكون لرئيس الوزراء، الذي رأى في السنوات الاخيرة الامور في الغالب انسجاماً مع رؤية الجيش الإسرائيلي، وزن شبه حصري في القرار.
ومن "الكريا" في تل أبيب الى قطاع غزة. فالاسبوع الماضي شهد مرة اخرى محاولات التسوية مع "حماس". في إسرائيل يشخصون فرصة في القطاع، ولكن الإرادات لم تكن أبدا العنصر الوحيد الذي يؤثر في الوضع هناك. وحدود الجبهة في الجانبين لا تزال ضيقة جدا. بسبب الرغبة في الوصول الى فترة هدوء طويلة، اتخذت إسرائيل غير قليل من الخطوات والاعمال في السنة الاخيرة كانت في الماضي أعلن عنها كأمور لا يمكن عملها حتى استعادة الملازمة هدار غولدن، والعريف اول اورون شاؤول وغيرهما من المفقودين الى إسرائيل.
ان سلة الامتيازات لغزة آخذة في الفراغ، والخطوة التالية على جدول الاعمال والتي تعتبر دراماتيكية على نحو خاص هي ادخال آلاف العمال من القطاع الى إسرائيل. هذا الموضوع موضع خلاف وعليه تجري مباحثات بين الجيش الإسرائيلي، الذي يعرب عن تأييده للخطوة والمخابرات الإسرائيلية التي تعارض ذلك بشدة. وفي هذه الاثناء يقدر جهاز الامن بأن هذا الموضوع لن يطرح على جدول الاعمال قريبا ولا سيما في ذروة حملة الانتخابات.
في هذه المرحلة تحاول إسرائيل و"حماس" كسب مزيد من الوقت للهدوء، كل طرف لمصالحه، وتحسن الوضع الاقتصادي في غزة يوصف في إسرائيل كمصلحة أمنية. في هذه المرحلة يوجد ما يكفي من محافل "الارهاب" في قطاع غزة ممن يسعون الى تقويض التفاهمات المحدودة الآخذة في التحقق بين إسرائيل و"حماس"، بحيث إن كلمة "تسوية" تعد حاليا أكبر بعدة مقاييس عن وصف الوضع على الأرض.
عن "معاريف"